مدونة سليمان بن محمد النجران

‏قاعدة منهجية: الأصول كله مبثوث في الفقه إما بالأثر، أو بمصطلحات أخرى.

قراءة الفقه: ‏الفقه لا يقرأ بفروعه مجزأ، كل فرع بمعزل عن الآخر، بل الفروع الفقهية شبكة متصلة متداخلة متماسكة، يؤثر كل فرع بالآخر جمعاً وفرقاً، فمن تمكن من إيجاد العلائق والروابط بين الفروع الفقهية، صار فقيها لأنه يستطيع جمع الفروع المتشابهة بمعانيها، حتى يقيم بها علمين كبيرين: القواعد الفقهية، وتخريج الفروع على الفروع. ولم تختلط عليه الفروع المتشابهة بظواهرها، المختلفة بمعانيها، حتى يظهر الفرق بينها، ليقيم علم الفروق الفقهية منها. ومن أحسن من رأيت يقرأ الفروع الفقهية الحنبلية بنظر متصل جامع للمعاني بينها: الإمام الحافظ ابن رجب -رحمه الله - في قواعده.

المواعظ أصل صلاح القلوب: ‏إذا جاءك مقطع صوتي وعظي فلا تزهد به، بل افرح واستبشر، فأرعه سمعك وألقِ إليه قلبك، واجمع عليه فكرك، وأكثر من تدبره بفهم معانيه، ثم انظر قي حالك وتقصيرك ونقصك تجاه مقاصده، فقد تكون سعادتك الدنيوية والأخروية بالاتعاظ بأمره ونهيه. "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ".

منزلة التخريج: ‏التخريج الفقهي حلقة طرفها بيد الأصولي والطرف الآخر بيد الفقيه، فإذا تعمق الأصولي بالتخريج صار فقيهاً، وإذا تشرب الفقيه التخريج صار أصولياً.

ترك الجمعة والجماعة للمسافر النازل في مكان واحد لأيام ممن يسمع النداء: ‏مسائل الجمع والقصر وترك الجمعة والجماعة حال نزول المسافر وإقامته لأيام في مكان واحد، اضطرب في تنزيله كثير من الناس، فبالغوا في الترخص وترك الجمعة والجماعة وملازمة الجمع والقصر لأيام بل لأسابيع، مع قربهم من مساجد الجماعات في البلدان والقرى التي يقطنونها، فلا تبعد عنهم المساجد عشرات الأمتار ويسمعون نداءها، وهم في رحلات نزهة مقيمين لأيام باستراحتهم دون أي عناء أو تعب ومشقة عليهم، قال ابن قدامة:"والأفضل للمسافر حضور الجمعة لأنه أكمل". بل جاء عند الحنابلة ما هو أشد من هذا : بأن الحمعة تلزم من أقام أقل من ثلاثة أيام تبعا للمقيمين كما قاله تقي الدين: أي ابن تيمية، قال في الفروع: وهو متجه. أما من أقام مدة تمنع القصر وهي أكثر من أربعة أيام فالصحيح من المذهب أن الجمعة تلزمه بغيره قدمه في الفروع. انظر: الإنصاف للمرداوي(٢/ ٣٦٩). فمن سمع نداء الجمعة أو الجماعة ولا مشقة عليه وهو نازل غير سائر ؛ فيتجه في حقه إجابة النداء ولا يترك الجمعة والجماعة إما استحبابا متاكدا أو وجوبا. أما الجمع للنازل لأيام في مكان واحد فلا يعرف ، وإن أتت بعض النصوص القليلة المحتملة، لكن المشهور من الأحاديث الكثيرة أنه عليه الصلاة كان في إقامته اثناء سفره لا يجمع الصلاة كما في إقامته بمكة ومنى قبل عرفة وبعدها فكان يصلي كل صلاة في وقتها قصرا. ومما أحب تذكير المتنزهين النازلين لأيام بل ولأسابيع في مكان واحد: ١- أن سفر النزهة وإن كان غير المشهور عن الإمام أحمد فقد جاءت رواية عنه: أنه لا يقصر فيه؛ لأنه مجرد لهو لا مصلحة فيه. ولأن أسفاره عليه الصلاة والسلام التي ترخص فيها كانت أسفار طاعة إما جهاد أو حج وعمرة. والأصح عن الإمام احمد خلافه الثاني: أن جمهور العلماء على من نوى وأجمع الإقامة في مكان واحد لأكثر من أربعة أيام تنقطع أحكام السفر بحقه. فالاحتياط والأفصل لكل من خرج لمجرد النزهة في الاستراحات وأقام فيها لأيام لا مشقة عليه فيها ولا تعب فهو أكثر راحة من المقيمين في دبارهم، أداء الصلاة في المساجد جمعة وجماعة عند سماع النداء، لينال الأجر العظيم، وليحتاط لدينه وصلاته.ولله أعلم.

فتوى مقاصدية: الجزئية والكلية عند الشاطبي رحمه الله: س/ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..أرجو إيضاح مقصود الشاطبي ـ رحمه الله ـ بالمندوب بالجزء واجب بالكل، ونحوه ، فماذا يقصد بالجزء والكل هنا، ولماذا اختلف الحكم بين الجزئية والكلية عنده؟ ج / عليكم السلام ورحمة الله وبركاته حياكم الله أخي الفاضل..نعم هذه قاعدة ذكرها أبو إسحاق رحمه الله في اختلاف الأحكام بالجزء والكل، الجزء والكل عند أبي إسحاق يعود لمعنيين: الأول: الشخص ذاته لما يداوم على أمر في كل أوقاته أو غالبها يكون بالكل، ولما لا يعمله إلا مرة أو مرات قليلة يكون بالكل. الثاني: بالنسبة للناس لما يقوم به أفراد قلائل يكون جزئيا، ولما يقوم به كل الناس أو غالبهم يكون كليا. وهذه من إضافات أبي إسحاق تأصيلا وتنزيلا في الحكم التكليفي وإن كان العلماء تكلموا عنها، والغزالي أشار إليها. وهي جارية في المباح والمندوب والمكروه، وفي قوة الوجوب والتحريم. قال الشاطبي رحمه الله: "الإباحة بحسب الكلية والجزئية يتجاذبها الأحكام البواقي. فالمباح يكون مباحا بالجزء، مطلوبا بالكل على جهة الندب أو الوجوب، ومباحا بالجزء، منهيا عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع. فهذه أربعة أقسام". فالمباح لما يلازم عليه ويستغرق الإنسان كل وقته فيه يكون مكروها كالصيد مثلا والتنزه وغيره، وقد يرتفع حتى إلى التحريم إذا ضيع واجبات عليه أو ارتكب محرمات بسببه. قال الشاطبي:" كالتنزه في البساتين وسماع تغريد الحمام والغناءِ المباح واللعب المباح بالحمام أو غيرها، فمثل هذا مباح بالجزء، فإذا فعل يوما ما، أو في حالة ما، فلا حرج فيه. فإن فُعل دائما كان مكروها، ونُسب فاعله إلى قلة العقل، وإلى خلاف محاسن العادات، وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح". والمكروه لما يشتغل به كل وقته يكون محرما لأنه يؤول لفعل المحرم غالبا كمن اشتغل بلعب الورق كل وقته فأضاع مصالح دينه ودنياه ونحوه. وكذا لو انصرف الناس كلهم لمباح من المباحات فهذا مكروه. ومثله لو انصرف الناس كلهم لمكروه فهذا سيؤول لمحرم. وأيضا بعض المباحات مباحة بالجزء، لكن لو تركها الناس كلهم جميعا أثموا لأنه ترك لما هو ضروري كالبيع والشراء والأكل والشرب الأصل أنه من المباحات لكن لو انصرف الناس كلهم عنه، ولو انصرف الإنسان عنه أيضا كلية، لفوت ضروريا في حفظ المال والأبدان؛ فيكون واجبا بالكل: قال الشاطبي :"والثاني:كالأكل والشرب، ووطء الزوجات، والبيع والشراء، ووجوه الاكتسابات الجائزة؛ كقوله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا) (أحل لكم صيد البحر وطعامه) (أحلت لكم بهيمة الأنعام)، وكثير من ذلك. كل هذه الأشياء مباحة بالجزء، أي إذا اختار أحد هذه الأشياء على ما سواها فذلك جائز، أو تركها الرجل في بعض الأحوال أو الأزمان، أو تركها بعض الناس، لم يقدح ذلك. فلو فرضنا تــرْكَ الناسِ كلِّهِم ذلك، لكان تركا لما هو من الضروريات المأمور بها، فكان الدخول فيها واجبا بالكل". وأصل هذا ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه:"لا صغيرة مع الإصرار"، وله أصل أيضا من جهة الواجب الكفائي. وسبب اختلاف الحكم بحسب الجزئية والكلية: أن فيه نظر مآلي مقاصدي مصلحي، إذ قدر المصالح يختلف ما بين الجزئية والكلية فتختلف أحكامها تبعا لاختلاف مصالحها ومفاسدها، فإن مدار الحكم من الوجوب والتحريم والكراهة والندب تابع للمصالح فلما تعظم المصلحة يجب ولما تعظم المفسدة يحرم، وكذا الكراهة والندب لما تتوسط المصلحة والمفسدة. وفي الكلية والجزئية ينظر إليها تحريما أو وجوبا إلى قدر المصالح والمفاسد المستجلبة والمستدفعة فتجب حال كثرة المصالح وسعتها كما في الكلية، وتحرم حال كثرة المفاسد وسعتها؛ لأن مردود الفعل المصلحي يختلف اختلافا كبيرا بين الجزئية والكلية فاختلف حكمه.والله أعلم.

‏أربعة لا يعوض فقدهم: الوالدان- عالم ناصح - كبير مجرب - صديق صدوق مخلص.

طرائق اتساع العلم: ‏لا تظنن أن العلم الذي حازه العلماء جاء من مجرد مجالستهم أشياخهم بحلقات العلم، فهذا هو الأصل. لكن سعة العلم وتفريعاته وتشعباته وتخريجاته وتنزيلاته وتصويراته ونصب الأدلة ونقضها وترتيبها، إنما جاء غالبا بأربع طرق متكاملة: ١- التدريس والانتصاب لتعليم العلم لطلابه المختصين به، الذين ينقبون عن دقائقه، ويفتقون أبكاره. ٢- التصنيف بتحرير المؤلفات المتقنة الخادمة والمسهلة والمقيمة للعلم . ٣- الفتاوى بإجابة السائلين في نوازلهم ومستجداتهم الحادثة ومشكلاتهم الواقعة. ٤- الردود العلمية المحكمة على الشبهات الواردة والطعون الباطلة على علمه القائم والمختص به. فهذه الأربع فاتقة العلم الموسعة المثبتة له. واعتبر بأي عالم متقدم أو متأخر تجد هذه الأغراض الأربع متمكنة من نتاجه العلمي.

سؤال في المنهج الفقهي: س/‏السلام عليكم دكتور ما المقصود بمناهج الفقهاء؟ ج/‏وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته حياكم الله أخي الفاضل..مناهج الفقهاء ما جمعت بين ثلاثة أشياء: ١- الأصول التي اعتمد عليها. ٢-أدواته الاستنباطية التي يستنبط بها من هذه الأصول. ٣- ومراجعاته لطرق استنباطه ونتائج الاستنباط. فيمكن يقال بأن المنهج الفقهي: الأصول التي يستمد منها الفقيه فقه وكيفية استنباطها، وتقويمه لما استتبطه. والله أعلم.