مِحَكُّ النَّظر

من الآفات التي تتفرع عنها إشكالات كثيرة سيولة الحقائق، أو انعدام ثنائية الحق والباطل عند التنازع والتحاكم، لا سيما في القضايا التي ليست محل اجتهاد، بل إما حق محض أو باطل محض.. وهي قضايا تتميز بأن أمارات الحق تكون لائحة لكل أحد، وأيضا تتميز بأن الأدلة عليها تكون متكاثرة، حتى يكاد يكون عليها أدلة بعدد الناظرين، ولا تحتاج إلا الصدق في طلب الحق، والخلوص من الأهواء حتى يدرك الناظر الحق فيها. ضياع مركزية الحق هذه، ينتج عنها إشكالات مثل: الفرق بين الفتح والاستعمار، الفرق بين الدعوة والتبشير ! هذا على افتراض عدم وجود فروق جوهرية في طبيعة الفتح والاستعمار، وطبيعة الدعوة والتبشير، وعدم وجود فروق جوهرية في القصد والغرض من كل منها.. فلو فرضنا جدلا المساواة التامة بين الفتح والاستعمار، وبين الدعوة والتبشير، لكان الفرق بين الحق والباطل كافيا في جعل هذه الأمور من المُحِق مقبولة، ومن المُبطل مرفوضة.. كثير من النزاعات ليس لها علاج ولا حل إلا بهذه الصورة، وهو إعادة مركزية الحق عند النظر، وانتفاء التساوي بين المتنازعين..، فيسقط الإشكال من أصله، وتنتفي المساواة بين الفتح والاستعمار، وبين الدعوة والتبشير مثلا ! وهذا الأمر مستبطن أصلا باطلا آخر، وهو وجود قاعدة مشتركة أو نقطة صفرية ينطلق الطرفان منها، وفي هذا إهدار لفطرة الله التي فطر الناس عليها ضربة لازب، وسبب ذلك هو الإغراق في النزعة العقلية الرياضية التي تحرص على الانطلاق من التسليم بوجود صفر معرفي، لا أننا نولد وعندنا نزوع لمعارف معينة تتكون، ثم إما أن تتم وتستمر في التكون، أو يعرض لها ما يفسدها وينكسها، ويحول بينها وبين تمام التكون أو استمراره.. أي نقاش لهذه القضايا التي من هذا الجنس قبل التسليم بهذا المذكور لا يفضي إلا إلى محاولات تبرير ساذجة لا تخلو من قدر من الاستخذاء، والحق عالٍ له سطوة، ولا ينبغي لمن معه الحق أن يلبسه لَبوس الاستخذاء ! أو يفضي إلى مسخ العقول والنفوس والأفكار، حتى تقبل وتذعن وتسلم للمساواة بين الصورتين، وهذا أيضا استخذاء فوق الاستخذاء السابق.. الأول استخذاء بالحق، والثاني استخذاء للباطل..، وكل منهما أشنع من الآخر باعتبار..

قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن الشيباني في كتابه الحجة على أهل المدينة: لَوْلَا مَا جَاءَ من الْآثَار كَانَ الْقيَاس على مَا قَالَ أهل الْمَدِينَة وَلَكِن لَا قِيَاس مَعَ أثر وَلَيْسَ يَنْبَغِي إلا أن ينقاد للآثار. وقال: لَا يَنْبَغِي أن يُؤْخَذ بِالرَّأْيِ للآثار الَّتِي جَاءَت مِمَّا لَا يقدر على رده أحْد. وَقَالَ أبو حنيفَة: لَوْلَا مَا جَاءَ فِي هَذَا من الآثار لأمرت بِالْقضَاء.

‏«الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية الحنبلي، وكان من أعلم المتأخرين بمذاهب الفرق وشطاح الصوفية، وإن كان قد شذَّ في مسائل معروفة فله في غيرها تحقيق مقبول، ومحل في العلم غير مجهول». الحسين بن عبد الرحمن الأهدل اليمني الأشعري تـ ٨٥٥ه‍.

أثر الأعمال الصالحة والأعمال الفاسدة في الدنيا.. «وأيضا فقد عُلِم بالاضطرار من النقل المتواتر، والتجارب المعروفة أن الأعمال الصالحة توجب أمورا منفصلة من الخيرات في الدنيا، وأن الأعمال الفاسدة توجب نقيض ذلك، وأن الله تعالى عذَّب أهل الشرك والفواحش والظلم، كقوم عاظ وثمود ولوط وأهل مدين وفرعون، بالعذاب المنفصل والمشاهد الخارج عن نفوسهم، وأكرم أهل العدل والصلاح بالكرامات الموجود في المشاهدة. وهذا أمر تقر به جميع الأمم». شيخ الإسلام ابن تيمية تـ728 هـ

الكمال محبوب لذاته بالاستقراء .. وكما أن مراتب الكمال كثيرة فكذلك مراتب الحب كثيرة، ولما كان الكمال الأقصى ليس إلا لله فالحب الشديد ليس إلا له. ثم إن شدة الحب تفيد حالتين مرتبتين: - الغفلة عن غير المحبوب. - الالتذاذ بإدراك المحبوب. ويدل عليه الاستقراء. فشدة حب الله تعالى لابد وأن يورث هاتين الحالتين، وأصحاب الذوق يسمون الغفلة عما سواه فناء، وكما أن الكمال بالنسبة إلى الأكمل لا يعد كاملا كذلك حب الكامل بالنسبة إلى حب الأكمل لا يسمى حبا، فلذلك لا يبقى الحب الشديد إلا لله تعالى، ولا يطمئن إلا بذكره، كما قال تعالى وتقدس:(ألا بذكر الله تطمئن القلوب). الرازي.

المقصود من العلوم والأعمال معرفة الله تعالى حتى تثمر المعرفة المحبة إذ لا ينبغي لأحد أن يفارق الدنيا إلا محبا لله تعالى ومحبا للقائه، فإن من أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه، ومن قدم على محبوبه يعظم سروره بقدر محبته لا محبا للدنيا لأنه يفارقها، ومن يفارق محبوبه يشتد ألمه وعذابه، فمهما كان الغالب على القلب حب الولد والمال والمسكن والعقار، فهذا رجل جميع محابه في الدنيا، والدنيا جنته، فموته خروج من الجنة وحيلولة بينه وبين محبوبه ولا يخفى ألم من يحال بينه وبين محبوبه. وأما إذا لم يكن له محبوب سوى الله تعالى فالدنيا سجنه فموته خروج من السجن وقدوم على محبوبه ولا يخفى فرح من نجا من السجن، ولقي محبوبه، فهذا أول ما يلقاه كل من يفارق الدنيا عقيب موته من الفرح والألم فضلا عما أعد الله تعالى من النعيم المقيم لعباده الصالحين، ومن العذاب الأليم للذين استحبوا الحياة الدنيا ورضوا بها ولم يستعدوا للقاء الله تعالى. قاضي زاده الرومي ( ت ١٠٤١ )

العلم بالله والمعرفة به ليس كافيا بمجرده.. «فالنفس ليس كمالها في أن تعلم ربها فقط، بل في أن تعرفه وتحبه، وإلا فإذا قُدِّر أن النفس تعرف الواجب الوجود وهي تبغضه وتنفر عنه وتذمه، كانت شقية معذبة، بل هذا الضرب من أعظم الناس شقاء وعذابا، وهي حال إبليس وفرعون وكثير من الكفار؛ فإنهم عرفوا الحق، ولم يحبوه ولم يتبعوه، وكانوا أشد الناس عذابا. بل حب الله تعالى هو الكمال المطلوب من معرفته، وهو من تمام عبادته؛ فإن العبادة متضمنة لكمال الحب مع كمال الذل». «فنفس عبادة الله وحده ومحبته وتعظيمه هو من أعظم كمال النفس وسعادتها، لا أن سعادتها في مجرد العلم الخالي عن حب وعبادة وتأله». «والعبد كماله أن يعرف الله فيحبه، ثم في الآخرة يراه ويلتذ بالنظر إليه». شيخ الإسلام ابن تيمية تـ728 هـ

"ولعل حب المصري للنكتة يعود إلى تجربته التاريخية الطويلة التي جعلته يعيش كثيرا من التناقضات ولحظات الانتصار والانكسار ويشعر بالقوة والعجز، الأمر الذي جعله قادرا على تطوير رؤية فلسفية قادرة على تقبل التناقضات وتجاوزها من خلال النكتة، وإن كان هذا لا ينفي أيضا مقدرته على التجاوز من خلال الثورة". عبد الوهاب المسيري