| محمد كمال الدين

لا أدري كم أعدت مشاهدة هذا المقطع الليلة.. في كلمات هذا البطل الهادئ سحر عجيب..وإيمان يطرق القلب ..ويقين يسمع.. إن كان من شيء يسلي المرء وينتشله من حال القهر والحزن الذي تملكه طيلة هذه الأشهر.. فهو مثل هذه الكلمات التي تهزه وتحييه..وتذكره أيّ معاني الحياة تلك التي يجب أن يتمسك بها الإنسان..حياة في سبيلها..وطلبا للمنايا من أجلها.. ثمّ ما الحياة؟!…إلّا تلك المنيّة المنجية.. (أحياء عند ربهم يرزقون..)

شهادة للدكتور في البعثة الطبية الشعبية الجزائرية العربي بوعكاز: اليوم هو عيد ميلاد إبني العزيز محمد إلياس ذو 7 سنوات. قد يظن أحدكم إن الطبيب آلة خلقت لصرف الأدوية. هذه الصورة لطفل عمره 9 سنوات إسمه أيضا محمد. في القصف الذي كان منذ يومين خرج محمد للمرة الرابعة بمجهوده الشخصي من تحت الركام. لكن هذه المرة كانت مختلفة. هذه المرة كانت لعائلة محمد وليمة وكان في البيت 25 فردا. محمد أصيب في الحوض وكان يخفي ألمه لأن الرجال حسبه لا يألمون. تركته تحت المراقبة طوال تلك الليلة وبعد صلاة الفجر مررت لأطمئن عليه فقال لي أنا كل يوم أنهض لأصلي الفجر لكني اليوم لا أستطيع، وأخفى دموعه.... وأخفيت أيضا دموعي. سألته ماذا تحفظ من القرآن قال لي ثلاثة أجزاء. سألته ان يقرأ علي، فقال والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى، وللآخرة خير لك من الأولى، فلما قال ولسوف يعطيك ربك فترضى، انفجرت بالبكاء وقلت له "أنت بالذات سوف يعطيك ربك حتى ترضى" فلما قال فأما اليتيم فلا تقهر إنهارت جميع قواي وانسحبت ففي هذه الليلة كان محمد الناجي الوحيد من العائلة....

رجالٌ وراء الشمس، وهمّةٌ فوق الثريا، همومٌ ثقال، وهامات كالجبال.

من شهادة الطبيب محمد لعريبي، أحد أطباء الفريق الجزائري العامل في شمال غزة. أشهد أمام الله من غير مبالغة أن هذا الثلاثي قد جاهد في سبيل الله وتفانى في خدمة الجرحى لدرجة لا توصف ..! بعد يوم شاق من العمليات المعقدة، دخل الجراحان بن حليمة رابح والعربي بوعكاز على الساعة 21:30 لإجراء عملية جراحية أخرى لمصاب بطلق ناري، فطالت العملية لأكثر من أربع ساعات وصارت الساعة تشير إلى 01:30 ليلا .. مرّ عليهما الدكتور الطيب محدان وهو متعب (وكبير في السن) فأخبراه أن هناك مريضا آخر يعاني من éviscération بمعنى خروج الأمعاء من البطن، وأنهما سيجريان له العملية الليلة، وطلبا منه المساعدة إن أمكنه ذلك، فسألهما هل حالته تسمح بالإنتظار للصباح؟ فقالا له: ممكن لكننا قررنا أن نجريها الآن ولا نتركه ينتظر فقد تأتي حالة أكثر استعجالا في الصباح ويتأخر ..إن لم تستطع نم أنت وسنجريها نحن. فذهب الدكتور محدان وطلب تجهيز غرفة العمليات الثانية وتوجه لغسل يديه ولبس البدلة وهو بالكاد يقف على قدميه من التعب. عبادة عظيمة في الثلث الأخير من الليل .. اللهم تقبل منهم.

(دخول الوفد الجزائري كان بلسما..) هكذا - بالحرف - نطق قبل قليل منير البرش مدير عام وزارة الصحة في غـزة، مثنيا على دخول 11 طبيبا جزائريا إلى القطاع ومباشرتهم العمليات الجراحية، وتحدث عن إصرارهم على الدخول، وكيف لبثوا على الجانب المصري من المعبر، وكيف أن الصهيوني أدخلهم دون تفتيش بعد رفضهم النزول له. ومراد الناطق باسم وزارة الصحة أن أهل غ زة يفرحون بتضامن إخوانهم، واذا كان دخول وفد صغير فرحا وبلسما لهم فكيف لو دخلت وفود إغاثة تؤكد لأهل غـزة أنهم ليسوا وحدهم أبدا؟! بارك الله في وفدنا الطبي الجزائري وكتبه في المجااهدين.

لا تستقيم حياة الناس دون معالم ترسيها..من أيّام وأزمنة ومحطات بدء واستئناف وختام... كذلك حياة الأمّم.. وليس الزمن في وجهه الآخر إلّا وقائع هذه الحياة في النفس البشرية؛ وفي ضمير الأمّة.. حين علوها وانخفاضها..وحين مسراتها وأحزانها..وفي أيّأم مجدها وأيّام خيباتها.. وفي كل حال وحدث ومصير تستقدمه وتمضي نحوه وبه وله... فسبحان من قرّن تأريخ هذه الأمّة الإسلامية بذكرى الهجرة.. ذكرى تأخذ بأتباع هذا الدين وبنيه ليعيشوا الحياة خفافا خفاف..أصحاب مبدأ وموقف ورسالة... وأصحاب عزم تنثني له أمواج الرمال ومجاهل الصحراء .. ذكرى تعيد بوصلة الناس وصلتهم بالحقيقة الكبرى التي في ظلالها تنشد وترشد الحياة..ودونها التيه والزيغ والضلال..

قدرة المقاومة على التصنيع والترميم والتجنيد في الحرب هي الصخرة التي تتحطم عليها آمال الصهاينة في اجتثاثها من غزة ..

أنا لا أفهم أين هم المنتجون الإعلاميون في عالمنا العربي بصراحة ؟! هذه مشاهد عظيمة للمحاكاة وانتاج أعظم الأفلام السنمائية وأروع دراما حربية .. هذه الحرب حافلة بقصص البطولة التي يمكن أن تصنع الحدث في عوالم الشاشة الصغيرة والكبيرة .. مما يخافون ؟ من المقاطعة الغربية ؟ فليذهب الغرب الى الجحيم هذه هي فرص العمر للنبوغ بأعمال تحاكي هذا الجمال الواقعي الذي تسطره أيدي هؤلاء المقاومين الأبطال .. خسر المنتجون إن لم يسارعوا في الاستثمار في البطولات الحالية في غزة .. خابوا وخسروا فعلا .. !

ولكن الإعلام العسكري لدى القسام ينوب عن كل الاستديوهات والكوادر الإعلامية والإنتاجية في كل العالم وهم أفضل بديل عنهم .. أنظروا إلى الإبداع في المونتاج ، إلى جمال انتقاء المشاهد ، لاحظوا احترافية التصفيف و رص المشاهد ، أنظروا إلى قوة الموسيقى وعظمة الإخراج .. لكتائب القسام وللمقاومة كلها أبدع وأبرع وأمهر المنتجين الإعلاميين .. ولا حاجة لهم بممثلين وكتاب سيناريو ومخرجين وكومبارس و أجواء السينما .. المشاهد الواقعية هنا .. والبطولة تتجسد حقيقة هنا والمصورون الأبطال هنا .. كل معالم الإبداع حاضرة وكل عناصر البراعة موجودة .. وهانحن نرى أبرع المشاهد وأجل الأطياف طازجة من الميدان بلا اختلاق ولا خيال ولا تصورات وبلا صور نمطية محرفة .. هنا إعلام المقاومة .. هنا آلة إيصال الحقيقة الجميلة والواقع البديع .. بوركت أيادي الإعلاميين الأشاوس .. 🌟🌟

هذا رجلٌ خرج للتو من مقبرة، من زنزانة لا يرى فيها النوم ولا الراحة ولا الحياة، من مجاعة فوق المجاعة، من مذلة في أيدي أراذل خلق الله وأنجسهم صدرًا وأوحشهم قلبًا، من سجنٍ على نهج غوانتانامو للشيطان الأكبر، وعلى نهج أبو غريب، لكنه فاقهم بشاعةً وقذارة! هذا رجلٌ على رغم ما رأى كله، يعود ليتحدث كأن السجن زاده إصرارًا فوق إصراره، وقد بات له ثأر جديد مع الاحتلال عن سبعة أشهر قضاها في أسره ليستحيلوا في داخله ثأر سبعين سنة؛ مع هذه العيون الساهرة الجاحظة، وهذه الجفون التي أغشي عليها من هول ما رأت من فظائع! ليعود الدكتور محمد أبو سلمية، رجل الشفاء الأول، الذي لم يأتِ بمثلِه رجلٌ من الرجال الخارقين، وهو لا يربط وشاحًا أحمر حول عنقه، ولا قناعًا أسود حول عينيه، وإنما معطف أبيض وسماعة طبية، وإيمان قلبٍ يعود بعد ذلك كله، يوجه رسالته لشعبه والمقاومة: الثبات الثبات!