عبد الرحمن القلاوي

المعاناة هي جوهر وجود الإنسان؛ أنت تعاني من الوَحدة، أليس كذلك؟ تأمل أن تحِب وتحَب، فتجد غيرك يُشقيه الحب، وثالثٌ يعاني الفقد، ورابعٌ يعيش ويلات الحرب. في مطلق الأحوال الكل يعاني بشكلٍ ما، حتى أنا أعاني أحيانًا من فرط الحنين لماضٍ ولَّى، ولم يترك لي غير الندوب والذكرى.

الوعي الجمعي والإرث الديني والفكري الذي تركه بعض علماؤنا بعد ابتلائهم في حياة الشباب المسلم المعاصر، ربما فاق جُل العمر الإنتاجي لغيرهم في الدعوة. وهذا من فتوح الله على عباده العارفين المخلصين، ومصداقًا أن الثمرة الطيبة لا ترتبط بالضرورة بطول إنبات الفسيلة؛ بل بجودتها وصلاحها وبركتها.

أحسب أن الأثر الديني والفكري الذي تركه علماؤنا ومشايخنا أمثال: م. أيمن عبد الرحيم، والشيخ سمير مصطفى ودكتور إبراهيم السكران وغيرهم من الأفاضل، في الوعي الجمعي للشباب المسلم المعاصر، جعل بعض المشايخ "الكيوت" وصبية التدين الافتراضي و"صحبة" إسلام السوق يستشعرون النقص والغيرة في هؤلاء حتى وهم في عز كربهم وابتلائهم. وهذا عجيب، فبدلًا من أن يخرص هؤلاء ويواروا سوءة خوفهم وخذلانهم -كحالنا جميعًا فلا مجال للمزايدة- تحت ذريعة فقه الواقع وينشغلوا بأنفسهم ويعلموا الناس أمور دينهم ودنياهم تحت سقف المتاح لهم، بل يتبجحون ويبررون الخذلان والسكوت ويشنعون على غيرهم ويعايروهم بما هم فيه؛ ولا أعرف صراحة كيف يفتح الرجل فمه -إن صحت فيه مواطن الرجولة- لينطق بهذا القذى والهراء في حق من ظفر أحدهم برقبته. وخير للمرء السكوت، إن لم يكن للإنصاف أقدر.

🦜

عمري ما توقفت عن الاندهاش من إلف الروح وانجاذبها لمن يشبهها، حتى في السوشل ميديا الناس تتابع بعضها حسب التوجه الفكري والتقارب في منظومة القيم والعقائد والاهتمامات، حتى نمط التربية والتعامل والملابس والخروجات والمشاركات والتغريدات والتلاوات والأشعار والأخبار التي يشاركونها، حتى ولو من دول أخرى مجاورة هناك شيء ما يجذبهم ويقربهم، كأنها تجمعات تتشكل بين فئة من الشباب وفئة من البنات بينهم كود أخلاقي خفي متعارف عليه ويطبقونه دون ذكره، حتى لو في مساحات اختلاف أخرى ومتابعة لناس مختلفين عنا في بعض الزوايا وأحيانًا بتطرف غير مفهوم. هل تفكرون في نفس الأمر أو يراه بعضكم بنفس المنظور؟

تعلمون بصراحة، أنني أتقرب إلى الله بمجاهدتي في تجنب الشتم واللفظ القبيح القاطع الذي أحيانًا لا يستقيم الرد بدونه، لشدة بلاغته، ولأن بعض الألفاظ تكون هي الأنسب والأقوم والأصلح في مواقف بعينها، وكم أعلم يقينًا أن لساني لا يعجز عن تهذيب كل جبان، ومع ذلك يراعي المرء كم ضحى أهله لأجل أن يكون تقيًا.

ولا تحرم وجوهنا رؤيةَ الجنة!

من الحماقات التي تخليت عنها، محاولة تغيير قناعات وأفكار الآخرين خلال نقاش أو جلسة عابرة. فبعض هذه الأفكار ربما ترسخت عبر امتداد سنوات من عمر الإنسان، والمساس بها يُعد تهديد مباشر لإيمانه وذاته. ولهذا أثره مع دوائر قريبة كالأهل والأصدقاء في تحاشي البغضاء والشحناء والصدام المتوقع. لذلك من الحكمة ألا يعاند الإنسان في محاولة إسقاط قناعاته على الآخرين بالقوة لكسب صف أو تغيير معتقد أو فكرة أو رأي -حتى وإن كان على صواب- دون فهم وتحليل لشخصية المتلقي، ومدى نضجه وسعة صدره في تلقي هذا التغيير المفاجئ لشيء قديم قد آمن به ويصعب عليه التخلي عنه. والوعي بهذه النقطة يجعل حياة الإنسان أكثر راحة خصوصًا مع الأهل في تجنب الجدال الطويل البائس في الدين والمجتمع والسياسة، والذي يخلق الشقاق بينهم بسبب قناعة معينة يخالف فيها الأبناء الآباء، غير واعيين بالنشأة والطرق والموروثات التي رسخت هذه القناعات والأفكار داخلهم، وأنهم بحاجة إلى وقت طويل وتعامل رحم لفك وتحليل هذه المدخلات وتغييرها. بل الأسلم في معظم الأحيان، أن تترك الأشياء كما هي عليه طالما أنها لا تخالف قطعيات الدين ومسلماته.

Straying Thoughts (1913) - Edmund Blair Leighton

‏لا أرى شجاعة في الوَحدة، ولا أستسيغ العزف على وتر التفرد كما يفعل البعض، ولا أريد أن تظل رحلتي فردية كذئب غابٍ لا قبيلةَ له. بل آمل أن تجتمع روحي مع أنيستها، وأن يقتحم الحبُّ باب قلبي دون طرق، وأن نمضي خفافًا على عثرات الدنيا بالتغافل والإحسان، ولمثل تلك الوقفة سويةً على عرفات أدفع عمري وكلي رضًا.