ضياء الصبر
_
تعلقت منذ صغري بحديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض.. والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو.. فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها".
كل جملة في هذا الحديث الشريف لها في داخلي معنى، ولها من تأملي نصيب. والآن يتعلق حديثي بتلك الجملة العظيمة: "والصبر ضياء"..
في شروحات هذا الحديث المختلفة تذكير بعظمة عبادة الصبر، وأن الضياء هو شدة النور، وأن الصلاة والصدقة والصبر يشتركون جميعا في عظمة الوصف، لكن لكون الصلاة والصدقة لا تتم للعبد إلا بالصبر فيها وعليها، كان الصبر هو أعظمها وصفا..
لكني دوما كان لدي تأمل هنا.. بالنسبة للصلاة والصدقة، هناك وضوح كبير في الوصف. فالصلاة نور للعبد لأنها صلته بالله تعالى، وأيضا فأثر النور يمكن الاستدلال له حسًّا، كقول الله سبحانه: "سيماهم في وجوههم من أثر السجود"، والأعمال الصالحة والصلاة أعظمها تكون نورا في القبر، ومن أدعية الذهاب إلى المسجد طلب النور في القلب وغيره، وكذلك نور المؤمنين يوم القيامة، والغرة والتحجيل من أثر الوضوء الذي هو شرط لصحة الصلاة.. فارتباط النور بها واضح.
والصدقة أيضا، فهي برهان على إيمان العبد، لأنه ينفق ماله وهو موقن أن ذلك لا ينقص من ماله وإنما يزيده بركة في الدنيا وأجرا في الآخرة.. وهو لم ير الأجر الآن بعينيه، بل ربما حرم نفسه وآثر الفقير بحاجته. وأيضا هي برهان على حب الله تعالى أكثر من شهوة النفس. فحب الإنسان للمال شديد، والتحذير من فتنة المال مما هو مستفيض في القرآن والسنة. فالصدقة تبرهن صدق المحبة، ويبدو أن تشابه اللفظ بين الصدق والصدقة من إشارات ذلك.
أما بالنسبة للصبر، فإنني أفهم أن الصبر فيه مرارة تعظّم الأجر، وأنه يوصف بالجمال إذا ما احتفّ بجملة الآداب الواردة حوله. لكني دوما كنت أتساءل: ما علاقة الصبر بالضياء؟.. بعبارة أخرى، ما الذي يمكن أن يضيئه الصبر؟
فتأملت في أحوال الناس حين تحزبهم الخطوب، كيف تلتبس عليهم أمورهم.. وكيف لا يكونون في تمام وعيهم كما هي حالهم في وقت العافية. تأملت حال الصارخ المتألم، وحال الفاقد الكسير، وحال المتدرب الذي لم ينجح بعد، وحال من أسرَته الشهوة، وحال غريب توصد الأبواب في وجهه، وحال مشتاق لم يتم له الوصل المباح، وحال قاريء يتتعتع، وحال محتاج تتزين له الدنيا.. وتأملت حالي حين أضعف، في كل مواطن الضعف، وتساءلت..
هل يمكن لي ولهؤلاء جميعا أن نبصر عند الخَطب سوى ما حزبنا؟
إننا نكون في ظلمة التجربة.. في تعبها ونصَبها وتكاليفها، فلا نراها على حقيقتها في الغالب، بل تتضخم في أعيننا حتى ربما لا نرى سواها..
في ظلمة المحنة تُحجَب عنا رؤية الحقيقة، ورؤية الأثر القادم.. ولا يضيء لنا فيها سراج سوى الصبر.
الصبر يلهبنا كما تلهبنا شمس الصيف، لكننا بدونه نكون في كسوف كامل.. حيارى متخبطين. الصبر هو ما يجلّي لنا الألوان بلا غبَش، ويصلنا بالحقائق لا بخداع ظلالها، ويشير لنا إلى الأفق الرحيب.. أفق الأثر العذب من بعد المرارة.
وهذا يرتبط في ذهني دوما بالإرشادات النبوية الشريفة إلى اعتزال الفتن، فإن الفتن ظلمات، والرؤية فيها عزيزة، والناس فيها يتخبطون، وكل منهم يزعم أنه على الطريق القويم. ولهذا فإن الأسلم من الصبر عليها عند الدخول فيها، هو الصبر عنها دون الدخول فيها.. باعتزالها حتى تنجلي الظلمة. والعبد يجتهد في النظر بقدر ما يستطيع، ويعرف أن حسابه على الله تعالى.
وكذلك متعجل الشيء قبل أوانه، أو من غير طريقه المشروع.. فإنه يكون كمن تطبخ طبخة بكلفة عالية، لكنها تفسدها بعدم اكتمال نضجها مع الوقت.. ولذلك حين تتذوقها تشعر بالحرمان بدلا من السعادة، وما هذا إلا لغياب الصبر. فإنها لم تبصر إلا الجوع، ولو اتخذت الصبر سراجا لعلمت أن عاقبة العجلة حرمان، وعاقبة الصبر هناء كامل.
وهذا ليس مقتصرا على الفتن، ولا المحرمات فحسب. بل إن الصبر يضيء لنا أيضا حين نصبر على الطاعة. لا أستطيع أن أنسى أغلاطي الكثيرة وأنا أحفظ بعض سور القرآن، ولو طلبت مني معلمتي حينئذ أن أفعل أي شيء سوى الحفظ ولو من باب العقاب لما ترددت. ما كنت أعرف وقتها أثر تعثري وبكائي، لكنه بالصبر انجلى. وكذاك الباحث حين تشغله مسألة لا يعرف جوابها، فإنها لا تتبين له بطريق سوى الصبر على تفهمها والتأمل فيها.
وبالجملة فكل ما يؤلم أو يثير أو يشوّش، فإنه ينكشف بالصبر.. فالصبر مطية لا تكبو.. الصبر يجلّي.. الصبر ضياء!