بَراح.

حين تنزل إلى الشوارع وحين تغضبك ضجّة الباعة، وكنتروليّة الباصات، وزحام الناس، وتعطّل الخدمة، وواحد شاي لو سمحت، وبكاء الطفل بيد أمّه والكثير من العشوائيات التي لا تفهم كيف اجتمعت في مكان واحد وزمان واحد، حينها تُفكّر بلا وعي في نفسك بين كلّ تلك المشاهد والأصوات والأنفس، وتفكّر فيهم هم أيضًا، أولئك الذين لا تعرفهم، تفكّر في ظروفهم وأحوالهم وأحلامهم وتحمل حتّى أسئلتهم وكأنّك أدركت كلّ مسائلك وبقي عليك أن تدرك مسائل الغرباء. في الجامعة، في المستشفى، في المدرسة، في البقالة، في المجمّع.. في الشارع مرّة أخرى، يأخذك خيالك الجامح نحو جبلٍ مرتفع، وتتأمّل في وجوه هؤلاء الكادحين، ترى شحوب وجوههم سمة تجمعهم رغم تنافرهم وتباعدهم، ترى حزنًا غير مفهوم يغلب على الجميع هُنا -في دنيا الناس-، ربّما هو حزن مبرر، لكنّه يثير فيك كمدًا فوق كمدك الفريد المنفرد، وتظلّ جالسًا في حضرة خيالك كئيبًا مغتمًّا عليهن، إلى أن يوقظك صوت الواقع (لو سمحت شوي، إللي بعده، دورك، مشّينا..)، والكثير من الجلبة التي تخبرك بأن وقوفك عند ملامح تعاسة كلّ هؤلاء الغرباء يعرقل مسير الحياة؛ حياتك وحياتهم، أنت الذي لم تتعلّم أبدًا التوقف عن التفكير في غيرك، والحياة التي لم تستسلم لتأخّرك في الخطو فظلّت ماضية بك أو بدونك، معك أو غالبًا عليك. سِر هناك، مع الناس، لا بأس.. احزن مثلهم، تكلّم معهم، وسرّح خيالك وقلبك، احزن مرّة واحدة حزنًا يكفيك، حزنًا يخصّك أنت، احزن مرّة في العمر حزنًا هيّنًا، ثم عد واحزن عن الناس ولكلّ الناس، لكن جرّب مرّة أن ترأف بروحك.

‏اللهم إن هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي.

"زُر من هويت وإن شطّت بكَ الدّارُ وحال من دونه حُجب وأستارُ لا يمنعنّك بُعد عن زيارته إنّ المحبّ لمن يهواه زوّارُ".

‏في جلّ المواضع التي ذكر فيها لفظ الهجرة في القرآن ارتبط ذلك بالقتال، وكانت الهجرة أسبق في ترتيب الكلام. لم يكن هذا الدين ليصل إلى الأمّة ويُحفظ عليها لولا رسول الله ﷺ، وأصحابه الكرام، إذ هاجروا وقاتلوا على قلّة عدد وجوع وحرّ وحصار وغزوات نصر أو بلاء وتمحيص، ‏وهذه سنّة الله الباقية في الأرض حتّى قيام الساعة، سيظلّ مجد الأمّة بازغًا برجالٍ لا يتثاقلون إلى الأرض إذا قيل لهم انفروا، بل توجّهوا إلى الله خفافًا وثِقالًا، وناسب ذلك أن تكون الهجرة أسبق، فهجران هوى النفس وهجران الأهل والأولاد في سبيل الله وهجران الدار والأرض، وهجران متاع الدنيا وزينتها، ‏كلّها مقدّمات لعبادٍ يصطفيهم الله أن يكونوا أولي بأس شديد، يؤيدهم بنصره إذا تحيّد عنهم عبيد الدنيا، وإذا تخلّف عنهم من كانت تجارتهم وأولادهم وعشيرتهم أحبّ إليهم من الله ورسوله وجهاد في سبيله. وكما كان عباد الله على عهدهم مع الله فالله سبحانه على عهده معهم، وسينصرهم بإذنه.

"فليست عشيّات الحِمى برواجعٍ عليك ولكن خلِّ عينيك تدمعا أعذل فيه النفس إذا حيل دونه وتأبى إليه النفس إلّا تطلَّعا سلام على الدنيا فما هي راحة إذا لم يكن شملي وشملكم معا لعمري لقد نادى منادي فراقنا بتشتيتنا في كلّ وادٍ فأسمعا كأنما خُلقنا للنوى وكأنما حرام على الدنيا أن نتجمّعا".

صلّى الله على الحبيب رسولِ الله واقفًا قبالة مكّة قائلًا: "والله إنكِ لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ". صلّى الله على المهاجرِ في سبيل الله، لائذًا بالغار يوم نزول الوحي ويوم الهجرة، مؤيّدًا بنصر الله، له مدد من جنودٍ لم تروها. صلّى الله على الرّفيق رسول الله يهدِئ روع صاحبه "لا تحزن إنّ الله معنا"، فكانت سكينة الله ثالثهما، وكانت كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا. صلّى الله على نور المدينة رسولِ الله، بدرًا يطلع في تاريخ الأمّة، فيُزيل عنها ستار الجهل والذِلّة، ويأتيها "بكتاب لا يغسله الماء"، ويحفظ عليها ربّها دينها إلى يوم القيامة. صلّى الله على مرشدنا رسول الله، نقتفي أثر خطاه رخاءً وشِدّة. رضي الله عن رفيق رسول الله، أبو بكر يقاسمه هجرته صلّى الله عليه وسلّم وممشاه. رضي الله عن المخلص أبو بكر صديق رسول الله، يفديه بالروح والأموال والأولاد، فما خوفه في الغار على نفسه ولكنّه يخشى أن يمسّوا بسوء حبيب الله. رضي الله عن الصدّيق أخِ رسول الله وصاحبه، صدّقه وقد كذّبه الناس. رضي الله عن أبي بكر المتشوّق لرفقة رسول الله، يقول له لا تعجل لعلّ الله يجعل لك صاحبًا، فجاءه الحبيب يبشّره يقول: "الصُّحبة". صلّى الله على الحبيب رسولِ الله، وآله وصحبه ومن والاه، ورضي الله عن أبي بكر. ١ محرّم ١٤٤٥، هجري.

صلّى الله على الحبيب رسولِ الله واقفًا قبالة مكّة قائلًا: "والله إنكِ لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ". صلّى الله على المهاجرِ في سبيل الله، لائذًا بالغار يوم نزول الوحي ويوم الهجرة، مؤيّدًا بنصر الله، له مدد من جنودٍ لم تروها. صلّى الله على الرّفيق رسول الله يهدِئ روع صاحبه "لا تحزن إنّ الله معنا"، فكانت سكينة الله ثالثهما، وكانت كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا. صلّى الله على نور المدينة رسولِ الله، بدرًا يطلع في تاريخ الأمّة، فيُزيل عنها ستار الجهل والذِلّة، ويأتيها "بكتاب لا يغسله الماء"، ويحفظ عليها ربّها دينها إلى يوم القيامة. صلّى الله على مرشدنا رسول الله، نقتفي أثر خطاه رخاءً وشِدّة. رضي الله عن رفيق رسول الله، أبو بكر يقاسمه هجرته صلّى الله عليه وسلّم وممشاه. رضي الله عن المخلص أبو بكر صديق رسول الله، يفديه بالروح والأموال والأولاد، فما خوفه في الغار على نفسه ولكنّه يخشى أن يمسّوا بسوء حبيب الله. رضي الله عن الصدّيق أخِ رسول الله وصاحبه، صدّقه وقد كذّبه الناس. رضي الله عن أبي بكر المتشوّق لرفقة رسول الله، يقول له لا تعجل لعلّ الله يجعل لك صاحبًا، فجاءه الحبيب يبشّره يقول: "الصُّحبة". صلّى الله على الحبيب رسولِ الله، وآله وصحبه ومن والاه، ورضي الله عن أبي بكر. ١ محرّم ١٤٤٥، هجري.

يا ربّ، كنتُ في رحلتي صورة سيدنا موسى خائفًا، مستوحشًا، مُلقًى في نهر طويل ولا دار لي هنا أعود إليها، أسير في الظلمة، آنسُ نارًا لكنّها تحرقني، أفتّش عن خليل يشدّ أزري، أدعوك اجعل في ظهري قوة الرِفقة التي تصدّقني "إنّي أخاف أن يكذّبون"، سرت وراء الحكمة من الأشياء بلا صبر، ولم يكن معي كالخضر يفسّرها لي، فظلّ تأويل هذا الحزن كلّه مُبهمًا لا أستطيع عليه صبرًا ولا فهمًا. يا ربّ، كنتُ في رحلتي صورة سيدنا موسى، لكنّي لم أملك كرامات ولا نبوّة، جهلتُ نفسي، وجهلتُ كلّ الذين عثرت بهم، كلّهم يا رب فجأة تحوّلوا إلى أسئلة محالة الإجابة، أكان الجهل أقصى المعرفة؟ يا ربّ أنا جهلتُ كلّ شيء لكنّي لا زلت أعرف الطريق إليك، وأعرف أنّي عبدك، وأعرف أنّك لا تضيّع عبادك.. لا أريد معرفة بعد ولا جهلًا، ولا حياة ولا مسيرًا، أريد الراحة يا رب ولم أجد لذلك دعوة أبلغ من الابتهال إليك أن (واجعل الموت راحة لي من كل شرّ). "لم أُعط من شرف النبوّة غير حزن الأنبياءِ".

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. مجددًا انقطاع عن بَراح قد يطول وقد يقصر. غفر الله لنا. لا تنسوا الأمّة المكلومة وشهداءها الأبرار ومجاهديها الأخيار من دعائكم، ولا تنسونا أيضًا من الدعاء، كرمًا. التمسوا الجمال في الكون والخلق وفي أنفسكم، وتصبّروا به على دنيا عصيبة. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفِّر عنّا سيئاتنا وتوفّنا مع الأبرار، ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. استودعناكم الله.

"وهذا أيضًا، هو سبب ترددي في الكتابة إليكِ، لكن حنيني الجارف إلى الوطن لم يترك لي الاختيار، فقد أصبحتِ أنتِ رمزًا لكلّ ما أحبّه في وطني، وعندما أفكّر في الوطن، أفكّر فيكِ، وعندما أحنّ إلى الوطن أحنّ إليكِ.. وبصراحة أنا لا أنقطع عن الحنين إلى الوطن".