رغدة🔻

جان ليون جيروم - منظر القاهرة View Of Cairo Jean-Léon Gérôme (1824-1904)

"أنا مستحيل بنتي تلبس عباية وطرحة، ليه هي خدامة؟" لربما تصدم إذا عرفت أن هذه الجملة قيلت في أحد الأفلام المصرية، وإذا تساءلت يوما لماذا تختلف مصر عن باقي الحواضر الإسلامية، وتعجبت من ربط بعض الناس مظاهر التدين بالخدم والطبقات الدنيا من المجتمع فستجد هنا شيء من الجواب عن أسئلتك نعرف أن الحضارة الإسلامية الآن في مرحلة سماها ابن خلدون الشيخوخة، وبعد أن كانت الأمة الإسلامية والعربية غالبة منتصرة، صارت مغلوبة، وكما يقال ورثت دول أوروبا تركة رجل أوروبا المريض(الدولة العثمانية)، فكانت البلاد تختلف حسب غاصبها ومحتلها، فكل شيطان له أسلوبه في الغواية، وكذلك كل صياد له أسلوبه في إخضاع فريسته، ولذا نرجع اختلاف مصر إلى أشياء كثيرة أولها: وقوعها تحت قبضة الاحتلال البريطاني. مصر إخراج الحملة الفرنسية بعد سنتين فقط، ولكنها فشلت على مدار 74 عاما ليس فقط في إخراج العدو بل في الصمود النفسي أمامه، فقد أصبحت كالذي أبهرته أضواء المدينة، وأصبحت المغلوب الذي يطيع الغالب ويقلده، الأمر الذي تكرر على مر التاريخ رغم غرابته، فالموقف أشبه بمن فقع عينه بضربة واحده فأعجبه أن يكون مثل غريمه بدلا من مقاتلته! هذه النفسية التي عاشت بها جعلتها تحذو حذو قاهرها في كل صغيرة وكبيرة، وحين ذاقت مرارة الهزيمة في التل الكبير، طفقت طبقة النبلاء تتنبه لهذا الغالب المنتصر بعين ذاهلة ويد تشير لأفكاره، لملابسه، لمشربه، لمأكله، لأسلوب حياته قائلة: أريد مثل هذا! وربى النبلاء أبنائهم على النمط الأوروبي نازعين إياهم من الوسط الثقافي العربي الإسلامي، فنشأوا معزولين عنه ولكن هل تم عزلهم تماما عن الثقافة الإسلامية والعربية؟ الحق يقال إنه لازال هناك مصدر واحد للاتصال وهو: خدم النبلاء وأبنائهم فارتبطت في أذهانهم هذه الثقافة بالخدم، هؤلاء الذين لم يتحضروا مثلهم، وينفتحوا على حضارة الغرب وعلومهم. فنبتت فئة جديدة في المجتمع صار الدين يمثل لها مجرد فلكلور شعبي، وهذا ما نراه في أوساط (إيجيبت) الآن، الذين لا يأخذون من الدين إلا اسمه فقط. واستمر التغلغل الفكري عبر وسائل متنوعة ومختلفة منها: المدارس التبشيرية (الراهبات) والصالونات الثقافية التي أخرجت لنا مثقفين تغذوا على زبالة أفكار المستشرقين، وصاروا مولعين بالتغيير للأفضل -كما يزعمون- ولا تنسى أن رواد هذه الصالونات غالبيتهم هم نفس أبناء النبلاء الخاضعين نفسيا وروحيا للغرب، فإذا كان هؤلاء هم قادة المجتمع ومثقفوه فماذا ننتظر؟ الغزو الفكري أشد أنواع الغزو دناءة، كالداء المعضل الذي لا يقتلك لكنه لا يتركك حيا، لقد استبدلوا حروب المال والسلاح، بحروب الفكر ويبدو أنهم الطرف الأكثر قوة في أرض هذه المعركة. -1-

(لستُ أقول بالذكر والخمول، ولكني أقول بالعلم والنظر) رَحَل المبرّد إلى بغداذَ، فقدِم بلدًا لا عهد له بأهله، فادركتْه الحاجةُ، فتوخَّى شهودَ صلاة الجمعة، ولما قُضِيتِ الصلاة أقبل على بعض مَن حَضَره، وسأله أن يُفاتِحه السُّؤال؛ لِيتسبَّب له القولُ، فلم يكن عند مَن حضره علمٌ. فلمَّا رأى ذلك رفع صوته، وطفِق يفسِّر، يُوهم بذلك أنه قد سُئِل، فصارت حوله حَلْقة، وأبو العباس يَصِلُ في ذلك كلامَه. فتشوَّف أبو العباس أحمد بن يحيى إلى الحلْقة، وكان كثيرًا ما يرِدُ الجامعَ قومٌ خراسانيون من ذَوِي النظر، فيتكلَّمون ويجتمع الناسُ حولَهم، فإذا بَصُر بهم ثعلب، أرسل من تلاميذه مَن يُفاتِشُهم، فإذا انقطعوا عن الجواب انفضَّ الناس عنهم. فلما نظر ثعلب إلى مَن حول أبي العباس أمرَ إبراهيم بن السَّرِيَّ الزَّجَّاج وابنَ الحائك بالنهوض، وقال لهما: فُضَّا حَلْقة هذا الرجل. ونَهَضَ معَهما مَن حضر من أصحابه، فلما صارا بين يديه قال له إبراهيم بن السري: أتأذنُ -أعزَّك الله- في المفاتَشة؟ فقال له أبو العباس: سَلْ عما أحببتَ. فسأله عن مسألةٍ، فأجابه فيها بجوابٍ أقنعه. فنظر الزَّجَّاج في وجوهِ أصحابه مُتعجِّبًا من تجويد أبي العباس للجواب. فلما انقضى ذلك قال له أبو العباس: أقنِعْت بالجواب؟ فقال: نعم. قال: فإن قال لك قائل في جوابنا هذا كذا، ما أنت راجع إليه؟ وجعل أبو العباس يُوهِنُ جوابَ المسألة، ويُفسِده، ويَعْتَلُّ فيه. فبقي إبراهيم سَادِرًا لا يُحِير جوابًا. ثم قال: إن رأى الشيخُ -أعزَّه الله- أن يقولَ في ذلك؟ فقال أبو العباس: فإنَّ القولَ على نحو كذا، فصحَّح الجواب الأول، وأوْهن ما كان أفْسده به، فبقي الزَّجَّاجُ مَبْهُوتًا، ث م قال في نفسه: قد يجوزُ أن يتقدَّم له حفظُ هذه المسألة واتفاق القول فيها، ثم يتفق إذا سأله عنها، فأوردَ عليه مسألةً ثانيةً ففعل [أبو] العباس فيها بنحوِ فعْله في المسألة الأولى، حتى والَى بين أربع عشرة مسألة، يجيب عن كل واحدة منها بما يُقنِع، ثم يفسد الجواب، ثم يعود على تصحيح القول الأول. فلما رأى ذلك إبراهيم بن السَّرِيِّ قال لأصحابه: عُودوا إلى الشَّيخ، فلستُ مُفارِقًا هذا الرجلَ، ولا بدَّ لي من ملازمته. فعاتبه أصحابه وقالوا: تأخذ عن مجهول لا تعرف اسمه، وتَدَع مَن قد شُهِر علمُه وانتشر في الآفاق ذكرُه؟! فقال لهم: لستُ أقول بالذكر والخمول، ولكني أقول بالعلم والنظر

- كتاب طبقات النحويين واللغويين، الزبيدي

النحو كالرياضيات كرهت الرياضيات كرهًا جمًا في المدرسة، فلُذت بالقسم الأدبي في الثانوية فرارًا منها، وكنت أتهم صديقاتي اللاتي التحقن بالقسم العلمي بالجنون، فكيف يحتملن كل هذه المسائل والأرقام التي لا معنى لها ولا فائدة سوى تنغيص عيشة الإنسان؟ وكرهت كل علم اتصل بها من قريب أو بعيد، إلا أن في السنة الأولى كان لِزاما علينا أن ندرس الفيزياء والمفارقة العجيبة أنني أحببتها بل وتميزت فيها! وعلى النقيض كنت أُتهم أنا بالجنون حين أظهر شيئا من السعادة في درس اللغة العربية، وهذا مما يستثير الذهن ويحرك الفكر ويطرح سؤالًا عويصًا! لم انحصرت أمواج كرهي عن شاطيء النحو؟ وهل النحو كالرياضيات؟ وإذا كان مثلها فكيف وقعت في حبه وفي حب الفيزياء -وأنا التي قطعت عهدًا بتطليق أي مادة تحوي أرقامًا أو قوانين-؟ فرأيت الإجابة تتلخص في عبارتي "الإنسان عدو ما يجهل، وأنا لا أُحب أن أبدو فاشلًا" قرأت مقالة بعنوان: لماذا يكره الناس الرياضيات؟ وكان مفادها أن الرياضيات والجبر خصوصًا مادة لا تُعلّم مقرونة بالتطبيقات العملية لها، ولذا فهي مجردة من التفاصيل الحسية التي تقربها للأذهان وتجعلها على الأقل معلومة مفهومة. "المعلمون هم المشكلة، فهم لا يجيدون الشرح" كانت هذه الجملة تريح العقل من عناء التفكير، ولكن هل كان الأساتذة لا يشرحون النحو فعلًا؟ الإجابة: نعم ولا في نفس الوقت! إذا كان المقصود هو شرح القواعد المقررة في المنهج فأغلبهم يفعل ذلك، ولكن بطريقة لا تجعلك تفهم شيئًا! فهنيئًا لك بعض الرموز التي لا تفهم منها سوى أن المبتدأ دائمًا مرفوع. ورجل لا يفقه من النحو شيئا ستكون أي كلمة منصوبة لديه: تمييز، والمضاف إليه شماعته التي يعلق عليها كل كلمة يحيره إعرابها، والنحو كابوسه الذي يتمنى أن يستيقظ منه قريبًا. فبعد أن درست النحو وأنت لا تعرف الغاية من ذلك، ولا فائدة هذه الدراسة، بل ولا تفهمه حتى، وكان مادة تستعرض أمامك إخفاقاتك المتكررة فلابد أن يكون السؤال! لماذا نحب النحو أصلًا؟ وليس لماذا لا نحبه! فالنحو أصبح مادة بيننا وبينها مصانع الحدّاد كما يُقال! وأصبح كأدوات صيد أعطيت لراعي غنم في قلب الصحراء وقيل له: اصطد! ولأشرح لكم ما يدور بذهني حيال فكرة "الشرح الجيد" أقص عليكم موقفًا مع دراستي للبرمجة، حين صادفتُ شرحًا لأساسيتها لمعلمة تجيد ضرب الأمثلة، فتقول: البرمجة هي حل المشكلات، فلو المشكلة عندنا هي أننا نريد صنع كعكة، فالوصفة والمكونات هي طريقة حل المشكلة، وتبدأ في رص المكونات أمامها، وتنهي الدرس وأمامها كعكة حقيقة وهي تقول تم الحل المشكلة! أراهن أنني لن أنسى هذه المعلمة وهذا المثال ما حييت! ومثلها وجدت أستاذًا يشرح الفرق بين التركيب الإضافي والتركيب فكان يقول: إذا أضفت الطماطم والخيار لباقي مكونات السلطة فيمكنك أن تفصلهم مرة أخرى إن شئت، على أنك لا تستطيع فصل السكر إذا مزجته بالشاي. ولهذا يمكنك أن تقول عبدالله، وتقول عبد وتقول الله ولكن لا يمكنك أن تقول بورسعيد وتعطيك نفس معنى: بور لوحدها وسعيد لوحدها. ولا قاعدة أو معيار معين للشرح الجيد، ولكنه فقط الشرح الذي تفهم منه فهمًا عميقًا ويجعل القواعد منطقية في عقلك. فكان أول تحدٍ تقابله في دراستك النحو هو: الشرح الجيد العميق. فبدونه تبدو القواعد غير منطقية، غير مفهومة، غير قابلة للتطبيق، سريعة النسيان. "علّم الرجل نظريًا مائة مرة كيف يسبح واجعله يشاهد كل يوم أمهر السباحين، كل هذا لن يوازي أول دقائق له في الماء" هل سمعت عن أكاديمية تعلم الصيد من خلال الكتب؟ أو عن نادي ينمّي عضلاتك من خلال شرح محاضرات عن كيفية نموها؟ إذا لم تسمع فحتمًا النحو ومعضلته لم تنتهي بعد، فهذه القواعد إن لم تتبع بتمرين وتطبيق فهي في طي النسيان، وأنا أجد هذه المهمة هي الأجمل إذا تمت الأولى بنجاح. ففي حين كانت قديمًا صعبة ومسرحًا لاستعراض فشلك، ستكون اليوم مصدرًا للثقة في مهاراتك النحوية وأنت تُطبّق ما فهمت، وهذا هو التحدي الثاني (التطبيق). النحو مادة صعب لا مراء في ذلك، ولكنها مليئة بما يشعرك بعظمة هذه اللغة وعبقريتها، ولازالت هناك فرصة لتحسن علاقتك معها، وتفهمها فهمًا عميقة.

وقالت أم معبد في وصفها له -صلى الله عليه وسلم-: حُلو المنطق، لا نذر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نُظمن.

ابن المقفع يرثي يحيى بن زياد: رُزئنا أبا عمرو ولا حيّ مثله فلله ريب الحادثات بمن وقع فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ذوي خلَّة ما في سداد لها طمع لقد جرَّ نفعا فقدنا لك أننا أمِنَّا على كل الرَّزايا من الجَزَع