العدالة الدولية بين الحقيقة والرمزية
أعلنت تركيا مؤخرًا انضمامها للدعوي التي رفعتها جنوب إفريقيا لدي محكمة العدل الدولية، والتي تتهم فيها إسرائيل بارتكاب جريمة "
الإبادة الجماعية" بحق الشعب الفلسطيني، ما أعاد الحدث الذي كان محط نظر العالم في يناير الماضي إلى واجهة الأحداث مرة أخري، في المقابل استمر الاحتلال في عدوانه، ما يؤكد الانطباع بأن إسرائيل تعتبر نفسها فوق المحاكمة،
وهو ما يطرح أسئلة تأسيسية حول حقيقة منظومة العدالة الدولية ومدى إلزامها، وهل تتمتع بالاستقلال والمهنية أم يغلب عليها الطابع السياسي؟
ينبغي الإشارة بداية إلي وقوع خلط بين مؤسسات العدالة الدولية المختلفة، فمحكمة
العدل الدولية هي الجهاز القضائي للأمم المتحدة بموجب ميثاقها الموقع في يونيو 1945، والتي حلت محل المحكمة الدائمة للعدالة الدولية التي انتهت بانتهاء عصبة الأمم
https://qrcd.org/5BfS ، وهي محكمة مغايرة
للمحكمة الجنائية الدولية التي أسست بموجب "نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية "يوليو 1998"
https://qrcd.org/5BfR وهي محكمة منفصلة عن الأمم المتحدة وليست أحد أجهزتها، فبينما تمارس محكمة العدل الدولية مهامها في مواجهة كافة الدول بموجب ميثاق الأمم المتحدة دون الحاجة لموافقة خاصة، فإن الجنائية الدولية تمارس اختصاصها في مواجهة الدول التي انضمت لعضويتها "124 دولة حتى الآن"
فوارق عدة بين المحكمتين،
إلا أن فارقًا جوهريًا يميز بينهما، فالعدل الدولية تختص بتسوية النزاعات بين "الدول وليس الأفراد"، أما الجنائية الدولية فتختص بمحاكمة "الأفراد وليس الدول"
إذن، فالقضية التي رفعتها جنوب إفريقيا تتهم "إسرائيل الدولة" أمام محكمة العدل الدولية وليس أشخاص مسئوليها، وهنا مكمن الالتباس، وبالتالي لو أرادت توجيه التهم لنتنياهو أو مسئولي حكومته أو قادة الجيش بأشخاصهم لتوجهت للجنائية الدولية التي انضمت لعضويتها في نوفمبر 2000.
حقيقة العدالة الدولية
بعد أيام من بدء معركة "
طوفان الأقصى" وفي اليوم التالي لمجزة "مستشفي المعمداني" التي راح ضحيتها ما يقارب 500 شهيد -حسب إعلان وزارة الصحة في غزة- استهل الرئيس الأمريكي "
جو بايدن" زيارته لإسرائيل، بقوله "
لقد شعرت بحزن عميق وغضب شديد بسبب الانفجار الذي وقع في المستشفى في غزة أمس وبناءً على ما رأيته يبدو أن الأمر قد تم من قبل الفريق الآخر وليس أنتم"
هذا التصريح يعطي مثالًا واضحًا لإهدار مبادئ "العدالة الدولية" إذ يمنح إسرائيل براءة مجانية دون تحقيق، ويضفي مشروعية أممية على أعمال العدوان التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي.
تعامل محكمة العدل الدولية مع دعوي الإبادة الجماعية قد يكون سبيلًا للإفلات من العقاب!، حيث أصدرت المحكمة في المرحلة الأولى قرارها بـ "
تدابير عاجلة لوقف اعمال الإبادة الجماعية في غزة" يطلب من إسرائيل اتخاذ إجراءات لمنع القتل والاعتداء والتدمير بحق غزة وتوفير الاحتياجات الإنسانية الملحة في القطاع بشكل فوري، وهو ما اعتبرته جنوب إفريقيا انتصارًا حاسمًا لسيادة القانون ومنعطف مهم للبحث عن العدالة للشعب الفلسطيني، الرغم من عدم امتثال إسرائيل للقرار،
والمحكمة لا تمتلك أي سبيل للإلزام بتنفيذ هذه التدابير ما يبقيها في دائرة الالتزام الأدبي. أما إثبات جريمة الإبادة الجماعية ذاتها فيأتي في مرحلة لاحقة قد تستغرق سنوات عدة، وتكتنفها صعوبات عملية ضخمة تنتهي في أغلب الأحيان بعدم إصدار أية أحكام.
والأمر لا يختلف كثيرًا في المحكمة الجنائية الدولية، فشواهد الإفلات من العقاب أكثر وضوحًا، فهي بحسب الأصل لا يحق لها نظر الجرائم التي تمت قبل تأسيسها ما يضفي على مرتكبي هذه الجرائم حصانة بالرغم من أن جرائم الإبادة لا تسقط بالتقادم، كما أنه لا يحق للمحكمة نظر دعوي بدأت في نظرها الدولة التي وقعت فيها الجريمة أو التي يحمل الجناة جنسيتها، ما يعطي الجريمة بعدًا محليًا قد يكون سببًا في حد ذاته للإفلات من العقاب، في حالات أخري يحق للدول الامتناع عن تقديم معلومات تخص الجريمة بحجة مساس هذه المعلومات بالأمن الوطني للدولة، ما قد يؤدى في نهاية الأمر إلى تعطيل العدالة.
تعويضات نيكاراغوا
عام 1984 رفعت نيكاراغوا قضية أمام محكمة العدل الدولية
https://qrcd.org/5D6x تتهم الولايات المتحدة بدعم العمليات العسكرية التي قام بها متمردي "
الكونترا" ضد حكومة نيكاراغوا ما اعتبرته المحكمة انتهاكًا للالتزامات التي يفرضها القانون الدولي العرفي بعدم التدخل في شؤون دولة أخرى أو استخدام القوة ضدها وانتهاك سيادتها، بالإضافة لانتهاك بعض الالتزامات الناشئة عن معاهدة الصداقة والتجارة والملاحة الثنائية الموقعة بين الطرفين، ورفضت في الوقت ذاته المبررات الأمريكية بكون الأعمال التي قامت بها دفاعًا عن النفس، وصدر حكم المحكمة بإدانة الأعمال التي قامت بها الولايات المتحدة وألزمها بدفع تعويضات مالية لنيكاراغوا، لم تمتثل الولايات المتحدة لحكم المحكمة ما دفع نيكارغوا لرفع الأمر لمجلس