وَصَاحِبُ التَّلْبِيْسِ يَرُدُّ نَصِيْحَةَ النَّاصِحِيْنَ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ،
مِثْلُ أَنْ يَقُوْلَ : لَا تُلْزِمْنِي، أَوْ لَا يَلْزَمُنِي: أَوْ أَنَا لَسْتُ بِمُقَلِّدٍ، أَوْ لَمْ أَقْتَنِعْ،
أَوْ هَذِهِ نَصِيْحَةٌ لَا يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللهِ، أَوْ أَحْتَرِمُ وِجْهَةَ نَظَرِكَ، لكِنْ لَا تُلْزِمْنِي بِهَا،
أَوْ هَذَا القَوْلُ أَلْزِمْهُ طَائِفَتَكَ،
أَوْ هَذِهِ المَسْأَلَةُ فِيْهَا خِلَافٌ، وَالأَمْرُ فِيْهَا وَاسِعٌ، لِأَنَّ جَمِيْعَ الأَئِمَّةِ المُجْتَهِدِيْنَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ،
وَنَقُوْلُ لِهَؤُلَاءِ : كَيْفَ تَكُوْنُ الآرَاءُ المُتَضَادَّةُ صَوَابًا وَوَاسِعًا، مَعَ أَنَّ الحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ؟
أَوْ هَذَا مَنْهَجُكُمْ وَلَيْسَ بِمَنْهَجِنَا، وَنَحْوُ ذِلِكَ مِنَ العِبَارَاتِ المُتَّخَذَةِ ذَرِيْعَةً لِلْهُرُوْبِ وَالاِنْحِرَافِ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيْلِ،
وَقَدْ تَكُوْنُ النَّصِيْحَةُ في مَسَائِلَ ثَابِتَةٍ بِالدَّلِيْلِ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ،
فَهَذِهِ طُرُقٌ مَاكِرَةٌ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، حَيْثُ يَسْتَعْمِلُهَا المُخَالِفُ، تَقَصُّدًا لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الحَقِّ الظَّاهِرِ بِالدَّلِيْلِ الرَّاجِحِ، وَفِرَارًا مِنْ إِقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ،
وَهَذَا مَا يَحْصُلُ كَثِيْرًا مِنْ أَصْحَابِ المَنَاهِجِ الفَاسِدَةِ،
فَلَيْسَ لِلْمُخَالِفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِاخْتِلَافِ العُلَمَاءِ، لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ،
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُ اللهُ الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الاِخْتِلَافَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَقَالَ " الإِخْتِلَافُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ أَحَدٍ عَلِمْتُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْأُمَّةِ، إِلَّا مَنْ لَا بَصَرَ لَهُ وَلَا مَعْرِفَةَ عِنْدَهُ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ،
قَالَ الْمُزَنِيُّ " يُقَالُ لِمَنْ جَوَّزَ الِاخْتِلَافَ وَزَعَمَ أَنَّ الْعَالِمَيْنِ إِذَا اجْتَهَدَا فِي الْحَادِثَةِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: حَلَالٌ وَقَالَ الْآخَرُ حَرَامٌ، فَقَدْ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُهْدَهُ وَمَا كُلِّفَ، وَهُوَ فِي اجْتِهَادِهِ مُصِيْبٌ الْحَقَّ،
أَبِأَصْلٍ قُلْتَ هَذَا أَمْ بِقِيَاسٍ؟ فَإِنْ قَالَ: بِأَصْلٍ، قِيْلَ لَهُ: كَيْفَ يَكُونُ أَصْلًا، وَالْكِتَابُ أَصْلٌ يَنْفِي الْخِلَافَ، وَإِنْ قَالَ بِقِيَاسٍ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ الْأُصُوْلُ تَنْفِي الْخِلَافَ، وَيَجُوزُ لَكَ أَنْ تَقِيْسَ عَلَيْهَا جَوَازَ الْخِلَافِ؟
هَذَا مَا لَا يُجَوِّزُهُ عَاقِلٌ فَضْلًا عَنْ عَالِمٍ، وَيُقَالُ لَهُ: أَلَيْسَ إِذَا ثَبَتَ حَدِيْثَانِ مُخْتَلِفَانِ عَنْ رَسُوْلِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، فَأَحَلَّهُ أَحَدُهُمَا وَحَرَّمَهُ الْآخَرُ،
وَفِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُوْلِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا،
وَنَفْيِ الْآخَرِ، أَلَيْسَ يَثْبُتُ الَّذِي يُثْبِتُهُ الدَّلِيْلُ وَيُبْطِلُ الْآخَرَ وَيُبْطِلُ الْحُكْمَ بِهِ،
فَإِنْ خَفِيَ الدَّلِيْلُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَأُشْكِلَ الْأَمْرُ فِيْهِمَا وَجَبَ الْوُقُوْفُ،
فَإِذَا قَالَ: نَعَمْ وَلَا بُدَّ مِنْ نَعَمْ، وَإِلَّا خَالَفَ جَمَاعَةَ الْعُلَمَاءِ، قِيلَ لَهُ: فَلِمَ لَا تَصْنَعُ هَذَا بِرَأْيِ الْعَالِمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ؟
فَتُثْبِتُ مِنْهُمَا مَا أَثْبَتَهُ الدَّلِيْلُ وَتُبْطِلُ مَا أَبْطَلَهُ الدَّلِيلُ؟ " قَالَ أَبُوْ عُمَرَ: مَا أَلْزَمَهُ الْمُزَنِيُّ عِنْدِي لَازِمٌ، فَلِذَلِكَ ذَكَرْتُهُ وَأَضَفْتُهُ إِلَى قَائِلِهِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ مِنْ بَرَكَةِ الْعِلْمِ أَنْ تُضِيَفَ الشَّيْءَ إِلَى قَائِلِهِ، وَهَذَا بَابٌ يَتَّسِعُ فِيهِ الْقَوْلُ، وَقَدْ جَمَعَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِي هَذَا وَطَوَّلُوا،
وَفِيمَا لَوَّحْنَا مَقْنَعٌ وَنِصَابٌ كَافٍّ لِمَنْ فَهِمَهُ وَأَنْصَفَ نَفْسَهُ وَلَمْ يُخَادِعْهَا بِتَقْلِيْدِ الرِّجَالِ "
(جَامِعُ بَيَانِ العِلْمِ وَفَضْلِه (2/922)
وَإِنَّمَا الحُجَّةُ اللَّازِمَةُ الإِجْمَاعُ لَا الاِخْتِلَافُ ، لِأَنَّ الإِجْمَاعَ يَجِبُ الاِنْقِيَادُ إِلَيْهِ لِقَوْلِ اللهِ { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (النساء : 115)