باعوا دينَهم بعرضٍ من الدنيا زهيدٍ فخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسرانُ المبينُ {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}}، ثم إن يزيدَ وضعَ الرأسَ بين يديه و أظهرَ ما كان يخفيه بين جنبيه من الكفرِ والنفاقِ، وأفصحَ عما يكنه من البغضِ لآلِ محمدٍ الأطهارِ وللنبيِّ المختارِ.
وقال شعراً فيه يتفاخرُ بأنه قد انتقمَ لآبائِهِ -من محمد وآله- الذين قتلَهم في بدرٍ وأحدٍ حيثُ قالَ:
ليت أشياخي ببدرٍ شَهِدُوا ... جزعَ الخزرجِ مِن وَقْعِ الأَسَلْ
لأهلُّوا واستحلُّوا فرحًا ... ثم قالوا: يا يزيدُ لا تُشلْ
لستُ من عتبةَ إن لم انتقمْ ... من بني أحمدَ ما كان فَعَلْ
قد قتلنا القرمَ من أشياخِهم ... وعدلنا ميلَ بدرٍ فاعتدلْ
ثم ختم هذه الأبيات ببيتٍ من الشعرٍ فيه رِدَّةٌ عن الإسلامِ وإنكارٌ للوحي والقرآنِ فقالَ:
لعبتْ هاشمُ بالملكِ فلا ... خبرٌ جاءَ ولا وحيٌ نزل
عبادَ الله:
لقد فتحَ يزيدُ بنُ معاويةَ أبوابَ قصرِهِ فدخلَهُ البرُّ والفاجرُ ليشاهدوا رأسَ الحسينِ ونساءَه وأبناءَه وهم في أسوإِ حالٍ، وذلك قصداً منه ليشمتَ بأهلِ البيتِ ويستذلَّهم ويهينَهم، [وروي أن كان ممن حضرَ في ذلك المجلس رجلٌ نصرانيٌّ من أهل الذمةِ، فلما نظرَ إلى رأسِ الحسينِ عليه السلام وهو بين يدي يزيدَ، ورأى ما على ذلك الرأسِ من المحاسِنِ المحمديةِ، والصفاتِ الحيدريةِ، والمناقبِ الفاطميةِ، والهالةِ من النورِ التي تكسو وجهَهُ تعجبَ النصرانيُّ من ذلك، فقالَ: يا يزيدُ، لمن هذا الرأس، فقال يزيدُ: هذا رأسُ الحسينِ بنِ فاطمةَ الزهراءِ بنتِ رسولِ اللهِ.
فقالَ النصرانيُّ ومَن قتله؟ فقال يزيدُ: قتلَهُ عاملي ابنُ زيادٍ في العراقِ، حيثُ طلبَ الخلافةَ لنفسِهِ.
فقال النصرانيُّ: ومَن يكونُ أحقُّ بالخلافةِ منه وهو ابنُ رسولِ اللهِ، نبيِّكم ورسولِكم، فتبًّا لكم ولدينكم إن كان يأمرُكم بهذا العملِ، فلي دينٌ خيرٌ من دينِكم.
ثم قال: اعلم يا يزيدُ أن أبي مِن أحفادِ داوودَ النبيِّ وبيني وبينه أجدادٌ كثيرةٌ، والنصارى يعظمونني ويأخذون الترابَ من تحتِ أقدامي، وأنتم بالأمسِ كان نبيُّكم بينكم، أفتقتلون أبناءَهُ وذريتَهُ وتعذبون حريمَهُ، فقبحًا لكم.
فقال يزيدُ: لولا أن بلغني عن رسولِ اللهِ أنه قال: «من قتل ذميّاً معاهداً كنت خصمَهُ يوم القيامة» لقتلتك لأجلِ تعرضِكَ بهذا الكلام.
فقال النصراني: واعجباً لجهلك يا يزيدُ، أيكونُ رسولُ اللهِ خصمَ مَن قتلَ معاهدًا ولا يكون خصمَ من قَتَلَ أبناءَهَ وسَاقَ بناتَه.
فقال يزيدُ: اقتلوه لئلا يفضحنا.
فقال النصراني: أتريدُ أن تقتلَني، قال: لا بُدَّ من قتلِك، فالتفت النصرانيُّ إلى الحاضرين حولَه وقالَ: إني رأيتُ البارحةَ رسولَ اللهِ نبيَّكم وهو يقولُ لي: يا فلان، أنت معنا في الجنةِ.
ثم إنه نطقَ الشهادتين وأعلنَ إسلامَهُ من ساعتِهِ، ثم وثبَ على رأسِ الحسينِ وجعلَ يقبلُهُ ويبكي، ثم أمر يزيدُ بقتلِهِ فقُتلَ بعد ذلك، قُتلَ بعد أن علَّمَ يزيدَ الغويَّ وحاشيتَهُ الفاسدةَ درسًا في الوفاءِ والثباتِ على مبدإِ الحقِّ ولو كان في ذلك خروجُ روحِهِ، علَّمهم كيف يقولون كلمةَ الحقِّ وكيف يواجهون الباطلَ مهما كلفَ ذلك من ثمنٍ.]
عبادَ الله:
هذه قطرةٌ من مطرةٍ من سيرةِ كربلاءَ وما حملتْ في طياتِها من الأحزانِ والآلامِ، ولولا ضيقُ المقامِ لَزِدْنا، ولكنْ في القليلِ العظةُ والعبرةُ.
وهذه نبذةٌ يسيرةٌ من تاريخِ بني أميةَ وآلِ أبي سفيانَ الحافلِ بالجرائمِ والآثامِ والمجازرِ التي ارتكبوها، والتي راحَ ضحيتَها الآلافُ، والتي من أشدِّها فظاعةً وقعةُ (الحَرِّةِ) تلك الواقعةُ المؤلمةُ التي دارت رحاها في مدينةِ رسولِ اللهِ والتي كان الضحيةُ فيها هم أبناء الصحابةُ من المهاجرين والأنصارِ، وذلك عندما أمرَ يزيدُ جيشَهُ باقتحامِ مدينةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ واستباحَها للجندِ ثلاثةَ أيامٍ ينهبون ويقتلون ويسلبون وينتهكون الأعراضَ ويغتصبون النساءَ الطاهراتِ من بناتِ المهاجرين والأنصارِ، وأجبروهم على أن يبايعوا ليزيدَ بيعةَ عبوديةٍ وأنهم عبيدٌ له يتصرفُ فيهم كيف يشاءُ، ومن قال: أبايعُ على سنةِ اللهِ ورسولِهِ ضُربتْ عنقُهُ، بل يقول: أبايعُ على أني عبدٌ ليزيدَ بنِ معاويةَ، وقد خُتمَ في هذه البيعةِ على أعناقِ وأيدي بقيةِ الصحابةِ على أنهم خَوَلٌ وعبيدٌ ليزيدَ.
ولقد روي أن عددَ من قُتِلَ في هذه الوقعةِ ألفٌ وسبعمائةٍ من أبناء المهاجرين والأنصارِ، وعشرةُ آلافٍ من سائرِ الناس، سوى النساءِ والأطفالِ. هذا، وقد كان الرجلُ من الأنصارِ يقولُ لمن جاءَ يخطبُ ابنتَهُ: لَعَلَّهُ أصابَها شيءٌ يومَ الحرةِ [أي: أنه لا يضمنُ بقاءها بكرًا لكثرةِ من عاث بهنَّ من جيشِ يزيدَ في تلك الأيامِ] حيث افتضوا ألفَ عذراء في تلك الواقعةِ وأحبلوا منهم الكثيرَ، فإنا للهِ وإنا إليه راجعون، وصَدَقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله