المشكاة - عمرو عبد العزيز

كنا في العام الأول من دبلوم السياسة، في محاضرة لمادة (الأيديولوجيات السياسية)، وكان المعتاد أن كل طالب يتقدم (نيابة عن مجموعة زملاء) ليشرح واحدة من الأيديولوجيات. كان الدور على طالب نحيل غير مهندم، له صفات تقليدية للشاب العلماني اليساري (المتحرر)، من (نتانة مظهر) وخلافه. تقدم هذا الطالب الشاب لعرض الأيديولوجيا الفاشيَّة، ثم بعد مقدمات عامة، فوجئنا به يتحدث عن الفاشية الإسلامية، ويضرب بالإسلاميين المثل، وتفاعل بعضهم معه، فتاتان بالضيق وسافرتان فتاة وكهلة قبيحة بالتشجيع وشخص آخر سأعود له. لم يستطع الدكتور تحمُّل الأمر، وبرغم أنه أستاذ شاب، يعمل مباشرة في منصب استشاري بداخل الوزارة، ومعروف بدعمه المخلص للنظام، غير أنه لم يُطِق ما جرى، وقاطعه قائلا: أردت منك أن تتحدث عن الفاشية! عندك أمثلة مباشرة للفاشية، ما الذي ألجأك لشيء مثل هذا فتصنع الاضطراب؟ دافع الشاب عن نفسه، ومعه الشخص الآخر، قائلا إن الفاشية الإسلامية هي النموذج المعاصر الأخطر إلخ، لكن الأستاذ قاطعه مرة أخرى رافضا منطقه وشكره وطلب منه العودة لمكانه. كان هذا الشخص الآخر هو عملاق ملتحٍ، من أتباع (الكيان!)، وقد تعجَّب الطلاب ما سبب موافقته على كلام هذا الشاب المدعي، خاصة أن الفتى أساء وتجاوز بقوة؟ حتى أنا شعرت بالدهشة والاشمئزاز، خاصة أن الموضوع استمر في مجموعة الواتساب بعد انتهاء المحاضرة، وكان ظاهرا إلحاد الشاب وعداوته للإسلام كله، فليست المسألة جماعات فقط، لكن من الذي دافع عن الشاب في المجموعة؟ الأخ إياه، هو ومجموعة العلمانيين، وكان رأيه أن الشاب فقط أخطأ في التعميم، فإن من يقصدهم بالفاشية الإسلامية هم الإرهابيين كالإخوان، وصعَّد (الأخ) من شرحه للمغفلين ببيان إرهاب حسن البنا وقطب إلخ. ثم رأيت طرفي الحادث لاحقا، أحدهما الشاب العلماني، وكنت حينئذٍ في نهاية تمهيدي الماجستير 2019، أثناء الامتحانات، أي بعد سنوات ثلاثة، أذاكر صباحا في مكتبة الكلية تجهيزا للامتحان، وجاء زميل دراسة كبير في السن ووجدت الشاب جالسا على مرمى حجر يذاكر هو الآخر. توقعت أنه سلك مسارا غير العلاقات الدولية، إذ لم أره طوال عام التمهيدي، لكن الزميل قام يسلم عليه ففوجئت أنه ما زال يمتحن الدبلوم الذي كان إما يرسُب فيه أو يؤجله، وهذا بالطبع مُنبئ بعجزه عن استكمال الدراسات العليا فكان شرط الدخول للماجستير ألا يقل التقدير عن جيد جدا. ليس هذا هو الغريب، الذي حدث أني بعد الامتحان انتابني الفضول فدخلت صفحته على مواقع التواصل لأرى أغيَّر اعتقاداته أم لا، فوجدت منشورا قبل ساعتين، يشكو فيه من صعوبة امتحانات (الماجستير)! الشاب لم ينجح في الدبلوم، ولن يدخل الماجستير أصلا، ومع ذلك هو في مواقع التواصل يقضي التمهيدي! أما (الأخ) الملتحي فقد رأيته طوال عامي الدبلوم، وله مشهد لن أنساه أبدا، يلاحق السافرة الأربعينية الكهلة القبيحة ليتحدث معها عن شيء، وهي تشبه الصرصور بالفعل في الصورة والإمكانات العلمية العقلية والحجم، فكان مشهده وهو يهرول وراءها لائقا به وبناسه! الموقف الثاني حدث في نهاية تمهيدي الماجستير، وكان مطلوبا منا في مادة (مناهج البحث) أن نتقدَّم بملخص مشروع بحثي يستوفي أركان البحث العلمي الأكاديمي، وكنت قد اخترت بحثا عن اليمين الأمريكي في عصر ترامب (وهو ما سيتحول لاحقا للرسالة بالفعل)، وفي يوم عرض كل طالب بحثه، جاء الدور على (شيخ) شارف الخمسين، علمت من زميل يعرفه أنه من (رؤوس الكيان) في محافظته، فإذ بنا نجد بحثه يتحدث عن تفسير نظرية (كذا) للجماعات المتطرفة: مثال سيد قطب، لا أذكر اسم النظرية، لكنه شرح موجزا لها: هي نظرية تنسب إلى عامل المرض النفسي ظهور التطرف، وبدأ (الشيخ) يشرح بحثه، وكان يُلحِق - بورع ظاهر - اسم سيد قطب بالترحم (رحمه الله)، فأبدت الأستاذة ضيقها، قائلة هو متطرف، وكذلك أظهر بعض الجالسين، فقال لهم (الشيخ) بنبرة حازمة: هو مُسلم واجب الترحم عليه! واستكمل عرضه وسط ضيق الدكتورة، فقال إن الإخوان بسبب السجن أصابتهم لوثة عقلية، فنظَّر سيد قطب لهم الإرهاب والتطرف وقتل المسلمين، فخرجوا في السبعينيات بسبب هذا التنظير يقتلون الناس حتى اليوم، وضرب المثل بالمتفجرات التي يزرعونها، وكانت الأستاذة قد استحسنت كلامه بعدما قال كل هذا، بينما قلت أنا بنبرة ساخرة في صوت سمعه بعض المحيطين بي، أثناء قوله (سيد قطب رحمه الله) في نهاية كلامه: بارك الله في أمك! كنت أضرب كفا بكف بعد المحاضرة: أدخلت هنا، تدرس العلوم السياسية منذ سنوات، وستقضي سنوات عقدك السادس تجهز رسالة ماجستير، وظيفتها تثبيت تهم الإرهاب على قطب والإخوان بل وكافة الإسلاميين تقريبا؟ أهذا حقا ما تجهز نفسك للقاء الله به؟ لا أعلم هل أكمل مشروعه ذلك أم لا، لكن أسأل الله أن يكون ما عرضه هو مجرد (مشروع) لا أكثر، فلم أتابعه لاحقا! لكن عامة هو (يترحم على الإخوان)! والدحيح يقول السلام عليكم ورحمة الله! إنهم جميعا يعطوننا الشيكولاتة، فلا يمكن أن يكونوا سيئين!

هذه رؤوس عناوين غير منظمة، من الضروري معرفتها لتقييم الموقف بصورة صحيحة: - ما ينكشف منذ شهور أظهر أن النظام المصري كان وما زال عدوا لإسرائيل في الخفاء، ولم يكن على نمط النظام الأردني، وهذه كانت مفاجأة لليهود أنفسهم بدأوا يستوعبونها وتتصاعد أصواتها منذ شهر ديسمبر والآن صارت في النخب. - إسرائيل لها في الحرب الحالية أهداف ثلاثة ترتيب التصعيد الزمني ضدها كالآتي: غزة (حماس) - لبنان (حزب اللات) - مصر (المرحلة الأخيرة). - إسرائيل بدأت فعلا التصعيد العسكري والإعلامي منذ غزو رفح، لكن الخطاب الإسرائيلي حاليا هو خطاب صناعة زخم حربي ضد مصر، غالبا سيتصاعد خلال العام أو العامين القادمين بالتدريج. - الخطاب الرسمي المصري الحالي واضح أنه مرتبك بين طريقين، أحدهما له طريق واحد فقط لا غير، ولا رجوع منه، وما يقلقه أنه هو ما يدفع إليه الإسرائيليون والكونجرس. - المعارضة المصرية في الخارج تتحدث في وادٍ لا علاقة له بما يحدث فعلا من حقائق على الأرض وما يُتداول منذ ستة أشهر على الأقل، ونماذجها التحليلية مدفوعة بالخصومة والعداء التاريخي لا بالحقائق الموضوعية، وبعضها أثبت فشله لكنهم كالعادة يقفزون سريعا على نقطة تقييم صحة نماذجهم وفروضهم الأساسية. - حزب اللات أثبت تطورا هائلا من الناحية الاستخباراتية والحرب الجديدة (المسيرات الذكية)، واستعد جيدا طوال الأشهر الماضية للحرب، وسيكون لكل هذا التطور تداعيات إن لم تخرج في وجه اليهود، ستخرج في وجه المعارضة السورية ومناطق المحرر وأي تمرد سني لبناني. - الدفاعات الجوية في العالم كله الآن في أزمة هائلة: بعد ضرب ال S400 في إيران، وضرب فخر الدفاعات الجوية الروسية في قلب روسيا نفسها قبل أيام، فإن الأمريكيين وحلفائهم، بما يملكونه أيضا من قدرات شبحية هائلة، صارت أراضي أي دولة تملك منظومة روسية مستباحة لهم. - سلاح الدبابات أيضا في أزمة عالمية بسبب الحرب الأوكرانية تحديدا لا غزة فقط، فأصبحت المسيرات تضرب الدبابات بسهولة وفشلت كافة أنظمة الإنذار المبكر (التروفي) في منع تدمير مئات الدبابات ببلايين الدولارات بواسطة طائرات مسيرة لا تكلف إلا بضع مئات الدولارات! - مصر هيكلها العظمي العسكري الذي شيدته منذ الستينيات وحرب الاستنزاف قائم على منظومة دفاع جوي متداخلة المستويات ولا تعتمد على الأمريكيين إنما على الروس، لهذا أقوى منظومة دفاع جوي عند مصر هي S300، وبعد منظومة الدفاع الجوي الركن الثاني في هيكلها العظمي العسكري هو قوة الدبابات الضخمة من الأبرامز التي تعد من أكبر مخزونات الأبرامز في العالم. - فلك أن تتصور أثر سقوط الدبابات ومنظومات الدفاع الجوي المتطورة خلال الأسابيع الماضية في كافة سيناريوهات المواجهة العسكرية التي يناقشها القادة العسكريون في العالم كله ومصر خاصة. - المستقبل ليس سهلا، والطريق يسير نحو أزمة كبيرة في الطريق، واليهود يُصعِّدون بحسب مخططهم ويتعاملون باعتبارهم ناجحين تماما حتى الآن (هدم غزة وتخريبها بما لا يمكن إصلاحه - تقطيع أوصال غزة - تشريد الشعب الغزاوي - فصل غزة عن مصر التي يراها اليهود الأفعى التي لدغتهم - إرهاب إيران وردعها عن التصعيد المباشر). - العقيدة العسكرية الإسرائيلية تغيرت تماما في هذه الحرب، ولم يعد اليهود يأبهون بعدد الضحايا أو الأسرى أو الخسائر المادية والعسكرية والأمنية، ويتعاملون مع الحرب هذه أنها (حرب النهاية) وهرمجدون مصغر. - هناك اتجاه نحو (تلبيس) فتح 7 أكتوبر للمصريين على مدى بعيد في إطار التصعيد. - اليهود يستعملون في الحرب الجارية منظومات عسكرية غير تقليدية بكثافة (المدرعات الإلكترونية - الكواد كوبتر القناص، إلخ). - المقاومة الفلسطينية تصنع ملحمة حتى الآن في غزة، من ملاحم الأمة العظيمة، والرهان عليها بعد الله ما زال هو الأكبر في أن تجعل اليهود يتوقفون عن مساراتهم!

التنديد بالغلاة الذين يخوضون في أعيان المسلمين، والتبكيت لفاتحي أبواب الخلافات العقدية بين المسلمين، وعرضها لسفاهات الصغار وتطاولات الحمقى واضطراب الجهال، يجب ألا يُقابل بتنازلٍ عن حقيقة أن أهل السنة، أهل الحديث، الحنابلة، أهل العقيدة السلفية - أيا كان المصطلح المستعمل مع التطورات التاريخية، وكلها مجرد مصطلحات حادثة - هم أهل العقيدة الصحيحة، وما عداهم من عقائد تتفاوت في الابتعاد عن الحق القويم - وأقربها بعيد - بعدما ابتلعت الفلسفة اليونانية للأبد بلا أمل علاج، فلا إصلاح إلا بهجرها إلى عقيدة أهل الحديث، سلف الأمة الذين نددوا بالكلام وأهله ومسائله وزخرفه. علاج الغلو لا يكون بالتمييع، والرجل هو من يدافع عن المعتقد الصحيح وقت انحسار المد، وانقلاب الأقربين، لا من ينتفخ مجاهرا حين صعود نجمه، وينتكس متصاغرا حين أفوله! ومن يستكثر بناس زماننا، ورؤوس علمائهم المُصدَّرين، استدلالا على الحق، إما أنوك يجهل عصرنا، أو مدلِّس يعلم ويخفي، ويهوى ويُضِّل! إنما الحق حق وشرف ولو نص بيرقه واحد، والباطل باطل وشين ولو هز راياته الألوف!

اليهود بدأوا منذ أيام غزوا شاملا لكافة أنحاء غزة تقريبا، في تكرار للتوغُّل الكبير الذي حدث في نهاية العام الماضي. وقد شهدت غزة خلال اليومين الماضيين ملحمة هائلة ما زالت مستمرة بين المجاهدين واليهود، وعدد بيانات الضرب واستهداف اليهود بلغ بالأمس فقط أكثر من ستين بيانا، وعدة فيديوهات لتفجير وقصف الدبابات وناقلات الجند والقناصة إلخ. الملحمة هذه المرة شديدة، ونتائجها وخيمة على الطرفين، فلا تغفلوا الدعاء للمجاهدين بالنصر، ولأهل غزة بالصبر على الشدائد.

لماذا لا نجد مسلسلا أو رواية عن زعيمة طائفة (الحشاشات)؟ يحدثونك عن طائفة الحشاشين، كفرقة منافقة أظهرت الإسلام واستبطنت السعاية لتخريب المجتمعات والدول. لكن الحشاشين هلكوا وانتهوا! تعالوا نتحدث عن طائفة الحشاشات، وزعميتهن (هدى شعراوي) التي عملت طوال حياتها برداء دين تحارب أسس توجيهاته للمجتمع. تفكر بالفرنسية وتتحدث بلسان عربي أعوج، وتستعمل كل حيلة غالية ورخيصة لنشر النسوية، وتتوغل بداخل الدولة المصرية وتنجح في جعل حركتها فوق مستوى الصراع الحزبي أغلب الوقت، وتبث دعوتها في النساء الريفيات والصعيديات والطبقات العليا. ترتدي الحجاب يوما كما في الصورة، ولا يعلم من ينشرها أنها كانت تخلع الحجاب أياما أخرى، فحتى هلاكها كانت تلقيه وترتديه بلا معنىً. هدي شعراوي نفذت كافة خطوات أصحاب الدعاوى الهدامة السرية، وهي أشبه بحسن الصباح من حيث ولوجها لمطبخ الدولة في مرحلة مبكرة وحصولها على مباركة وتعامي عن ارتباطاتها الدولية التي بدأت صراحة من أوائل العشرينيات، وتصريحها أنها تعمل في إطار حركة دولية عابرة للقارات والأديان! الكل كان يُمكن أن يُتهَّم بالعمالة إلا هي ونساء حركتها رغم أنهن عملن في إطار النسوية الإمبريالية زمنا طويلا، وملأت مقراتها ومجلاتها بنصرانيات وأجنبيات ومرتدات حاربن الشريعة في كل حين من أجل (إصلاحها) الذي يبدأ ب(معركة خلع الحجاب) حتى (المساواة في الميراث)! هذه المرأة المحجبة التي أمامك، كانت تقول في مذكراتها أنها ظلت دوما تفكر قبل أي فعل تصنعه (هل سترضى عنه يوجيني أم لا؟)، ويوجيني هي المنافقة الفرنسية التي أظهرت الإسلام وصاحبة الصالون الشهير في نهاية القرن التاسع عشر لتأديب وتهذيب وإصلاح أي ذكوري تقليدي عفن وتربية الجيل النسوي النتن الذي ألقت زعيمته هدى شعراوي الحجاب على الأرض احتقارا وازدراء! هدى شعراوي، المُحرِّك الرئيسي لحركة نزع الحجاب في العشرينيات والثلاثينيات والتي يفاخر أنصارها أنها جعلت مصر لا تدخل الخمسينيات إلا وقد انتشرت المناظر المخزية لقراء قرآن وأزاهرة كبارة ورؤساء جماعات إسلامية يقفون بجوار زوجات وبنات بلا حجاب! حتى الحركة الإسلامية دست فيها سمها الزعاف حينما خرج من تنظيمها (لبيبة أحمد) التي بايعت البنا وأنشأت القسم النسائي بأفكار كثير منها منطلق من أستاذتها هدى شعراوي، وزينب الغزالي التي كانت تعدها ابنتها وأثرت في فكرها حتى موتها! كيف لا يُصنع مسلسل عن (زعيمة الحشاشات) هذه؟ خاصة أن دعوتها ناجحة جدا حتى الآن، وتنظيمها السري له نفوذه الجائر وارتباطاته الغربية الإمبريالية؟ لا أعرف!

زاد في الأعوام الأخيرة مدعو التجديد والتنوير والاجتهاد ذم استعمال المسلمين لمصطلح الدياثة في وصف فئة هي من أفسق أهل الأرض وأخبثهم طوية، وهي فئة الممثلين والفنانين والفنانات والمطربين والمطربات، زاعمين أن مصطلح الديوث يُطلق فقط على من يسمح لأهله بالزنا، لا على مطلق من لا يغار على أهله. ثم تسافل وضيعهم فادعى أن حتى من يسمح لأهله بالفحش أقر النبي له باستبقاء زوجته، حاشاه صلى الله عليه وسلم، وقبح المدعي. وليس كل ذلك إلا محاولة لمنع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزجر العوام للفساق والمجرمين، وفرض النظر بعين الحب والرحمة لأهل الفجور والدياثة! كل هذا في إطار الدين العلماني الأكبر: الليبرالية المزخرفة بالآيات والأحاديث ودعاوى الاجتهاد وكشف الفقه الحقيقي! هذا كله هو عبارة (لا تحكم على الناس) الإنجليزية الليبرالية لكن بوضعها في إطار إسلامي مستدلا ببعض أفعال منحرفي التصوف في التراث الإسلامي أو الشذوذات الفقهية المنفردة التي لا يخلو مذهب منها. لكن للغة والفقه رأيا آخر، يُكذِّب أولئك الفساق المنافحين عن أهل الضلال والفحش. فالديوث عند أهل اللغة وأهل الشرع مصطلح عام، يُطلق على من لا يغارون على نسائهم بدرجاتهم، بدءا من الذي لا يغار على خلطتها بالرجال، أو هنَّاتها (تصرفاتها غير المحتشمة)، حتى يصل إلى الذي يقر فعل أهله الفاحشة. وفي فقه اللغة للثعالبي جعله أقل درجات عدم الغيرة وهو من (يسمع) هنَّات أهله ولا يغار، ثم الدرجات الأعلى من الدياثة هي القُنذُع: الذي يرى ولا يغار، والطسع (الطزع عند الزمخشري) وهو معدوم الغيرة. أما الذي يغضي عن الفاحشة الكبرى في امرأته فهو المغلوب، والذي يغضي عن فاحشة أخته فهو المرموث. وهما أعلى الدرجات. والدياثة في لسان العرب من اللين والتذلل، وفرق ابن منظور بينه وبين القواد في خصوصية القيادة (المُستعملة في مُقرِّ الفاحشة أصلا)، وعمومية الدياثة (تضم كلا من القواد ومن لا يغار على أهله مطلقا). وأصل كلمة دياثة سيريانية، قاله ابن منظور وابن الأنباري. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الديوث ممن لا يدخلهم الله الجنة. وبهذا الحديث فسَّر بعض الفقهاء حديث الصحابي القائل عن زوجته (لا ترد يد لامس)، وإقرار النبي له ألا يطلقها، فقد انقسم الفقهاء وعلماء الحديث من طعن في الحديث من ناحية السند، ومنهم الإمام أحمد الذي قال عنه: مُنكر، ومنهم من فسر اللمس بالسفه في الإنفاق على كل من يمد يده، ومنهم من فسره بأنها لا تفحش ولكن سجيتها لا تزجر، ومن أدلتهم الحديث، فمحال أن يُقر النبي صلى الله عليه وسلم زيجة دياثة - والدياثة من الكبائر - بينما يتوعد فاعلها بجهنم، حاشاه! ونقل ابن تيمية في استشهاده بحديث تحريم الجنة على الديوث أن منه الذي يترك امرأته تخالط الأجانب وقت الطعام لغير الحاجة (كضيق المكان وقلة الطعام). وعرف الإسنوي الشافعي الدياثة نقلا عن إمام المذهب في المهمات: بأن يكون له - مثلا - جارية تغني، فيجمع الناس كي يُسمعهم غناءها، أو يبعث بها إلى الناس كي تُسمعهم هذا الغناء. وفرقوا بينه وبين القرطبان أنه من يدخل الرجال إلى أهله للزنى بهم، وكذا القواد لكن لفظ القيادة أعم، ولفظ الدياثة الأوسع مطلقا وهو من لا يغار على أهله. وفي النهر الفائق لابن نجيم الحنفي أن الديوث هو من لا غيرة له على أهله ممن يدخل على امرأته، وهو أكثر التعابير دورانا في كتب الفقهاء نقلا عن تعريف النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه عن الديوث. وفي كشف القناع للبهوتي الحنبلي أن الديوث هو (1) يقر السوء على أهله (2) يدخل الرجال على امرأته (3) الذي لا غيرة له، وعلق البهوتي: والكل متقارب! وحكم من شتم الآخر بأنه ديوث = التعزير تأديبا كمن قال يا حمار ويا كلب، لا الحد، فالدياثة لا يُشترط منها رمي الأهل بالزنا. وهو دليل واضح أن جمهور الفقهاء لم يفسروا الدياثة بمن يسمح بزنا أهله، إنما بمطلق عدم الغيرة على الأهل، وإلا كانوا حدوا الشاتم بقذف الأهل. ومن أوضح نصوص الفقهاء في تبيان الفوارق، كلام شيخي زاده الحنفي في مجمع الأنهر، إذ يقول (بتصرف): الديوث الذي لا غيرة له ممن يدخل على أهله. والأفحش منه (القرطبان): وهو الذي يرى مع امرأته أو مع محرمه [نساء أهله كأمه وأخته ومحارمه القريبات] رجلا أجنبيا فيدعه خاليا بها. لذا كان [القرطبان] أفحش من الديوث. ومن التفاسير والأمثلة الأخرى للديوث: هو الذي يبعث امرأته مع غلام بالغ، أو مع مزارعه إلى الضيعة، أو يأذن في الدخول عليها في غيبته. ختاما، عميد الفقهاء اللغويين الإمام الشافعي، عرف الدياثة ممثلا بمن يجمع الناس ليسمعوا جاريته، أو يبعث جاريته ليسمعها الناس! ما بالكم بمن يعرض للملأ جميعا مفاتن زوجاته، ونحور بناته، ورقصات أمهاته؟ ألا قبَّح الله صناع الدياثة وأخزى حماتها ومحرفيها!

بينما اليابان تتوهج اقتصاديا في الثمانينيات من القرن الماضي، وعدد سكانها ما زال مزدهرا، عرف علماء السكان أن البلد في طريق الانتحار والموت والانكماش الاقتصادي الحتمي! كان هذا يبدو لغير العالمين مُضحكا وغير واقعي؛ لكننا منذ عقد نعيش حقيقة ما أنذروا منه حينئذٍ. قبل عقود من بدء الانحدار الياباني، لوحظ أن العادات والتقاليد التغريبية قضت على معدلات الإنجاب التي كانت مرتفعة، وأن المستقبل القادم (مع عدم وجود هجرات من الخارج) سيمتلئ بالشيوخ والعجائز بلا شباب، هذا سيؤثر لا محالة على قدرة الدولة الصناعية والتجارية والعسكرية. نعم سيظل عدد سكان اليابان في مرحلة خادعة لعقدين: وفيه لن يحدث انهيار ما دامت معدلات الأعمار قد ارتفعت، لكن الخطر سيظهر فجأة حينما تُكتشَف الخدعة: أن عدد السكان الثابت أو حتى الذي يزيد ببطء نتاج ارتفاع نسبة شريحة كبار السن التي ستصل إلى ثلث الدولة! لا شباب ولا أطفال.. البلد انتحرت! يظهر كل ما سبق ومشكلة الخدعة في الأرقام: اليابان ظلت منذ عام 2000 حتى عام 2015 تعدادها شبه ثابت: 127 مليون. منذ عام 2015 حتى الآن فقدت اليابان خمسة ملايين بلا مُعوِّض! في عام 2024 أصبح تعدادها 122 مليون. متوقع لليابان بعد ربع قرن، في عام 2050، أن تفقد قرابة المليون سنويا من إجمالي السكان، أي أن عددها سيصل إلى 100 مليون تقريبا بعد ربع قرن، وستظل مستمرة في النزول السريع! للأسف نحن في مصر - وأغلب الدول العربية أيضا - على نفس طريق الانتحار (أو النحر)! والكل سعيد أو غافل بما يجري! فليعلم من ينحر مصر والعرب، أن طريق الانكماش السكاني يترافق مع الانكماش الاقتصادي والتجاري، ويترافق كذلك مع انخفاض المكانة الدولية والقدرة العسكرية! توهُّم أن ذلك يمكن السيطرة عليه عاشته الصين قبلا وما أنقذها أن عدد شعبها كان فوق المليار، فتحمَّلت سياسات تحجيم السكان الجنونية عقودا، لكن حتى هذا وضعها الآن في المرتبة الثانية سكانيا في العالم وفي طريق انتحار هي الأخرى: ستفقد الصين 100 مليون من سكانها خلال ربع قرن، وستهبط من مليار و424 مليون اليوم إلى مليار و312 مليون بعد ربع قرن، وستستمر في الانخفاض إلى درجة قد تصل أن يصبح سكان الهند (الرافضة لأي سياسات تحديد نسل) قرابة ضعف سكان الصين بعد قرن أو أقل، وسيكون هذا وبالا على الصينيين وآسيا كلها.

خير أدلة الفلسفة (وعلم الكلام) على وجود الله، البراهين الكونية والغائية والإتقان، موجودة صراحة في آي القرآن، وبأضبط العبارات وأتقنها، بما لا يجر ضلالات الحدوث والجواهر والأعراض وما شابه ذلك من متاهات الفلسفة. والذي يقول لك كيف أقنع الملحد بالقرآن وهو لا يؤمن به (الحجة الشهيرة)! قل له وهل نزل القرآن إلا كي يؤمن به من يكفر بوجود الله وصدق الأنبياء والبعث والنشور؟ هل نزل القرآن لتلاوته من قبل المؤمنين به في صلواتهم فقط، أم جاء يحاجج المجادلين ويتحدى المعاندين ويبرهن بالقواصم وينصر الفِطَر ويُرشِدُ الضالين؟

ليس بين دول تاريخ الإسلام التي قرأت عن سياساتها دولة كلما مررت بها ازداد يقيني أنها الأقرب للاستعمار الأوروبي (والنمط الأنجلوساكسوني تحديدا) أكثر من الأموية! من قلب سياسة الفتوحات من إسلامية هدفها الرئيسي دمج الشعوب الداخلة في الدين نفسه لخدمته والقيام على أمره بمساواة، إلى عربية استعمارية ثم إسلامية، هدفها الرئيس تعزيز الفصل بين طبقة عربية عرقية وبين الشعوب الأصلية، والرسوخ في مقعد السيادة. حتى سياسة دراسة الشعوب المحكومة كلها، وأولها الشعوب العربية، لفهم تفاصيل التفاصيل عن خلافاتها القبلية والعرقية، ثم استغلال ذلك لاحقا في التجنيد وصناعة الفرقة والفتن ولو بالأشعار وبعث أحقاد قبائل العرب في الشرق والأندلس، وبفهم تفاصيل الفوارق بين البرانس والبُتْر في المغرب العربي الكبير، كانت الأموية رائدة فيه؛ ففي كل الأحوال كان هذا الفهم الأنثروبولوجي والاجتماعي يوظف باستمرار لديمومة الفرقة وخدمة الطبقة المستعمرة والحاكم. الدولة الأموية توشك أن تكون مفتاح كل شر ابتليت به الأمة الإسلامية لاحقا، وكانت الرائدة في كل باب، ثم فاقها السفاحون لاحقا، من استبداد وتوريث، إلى حصار لمكة والكعبة واستباحة المدينة، إلى أخذ الجزية من المسلمين، إلى استهداف وقتل العلماء والصالحين والصحابة لمحض المعارضة، إلى بعث فتن الجاهلية العربية وتقريب أشعر صناع الفتن، واستهداف سلالة معينة بالملاحقة والتضييق والإبادة أحيانا - وأي سلالة؟ سلالة النبي! -، وسب آل البيت والصحابة فوق المنابر لسنوات وسنوات، واغتيال الملوك الصالحين (في ظروف غامضة!)، وتغيير منطق الفتوحات من دمجي إسلامي إلى استعماري طبقي عنصري، واستباحة أموال المسلمين في بيت المال وفي غير بيت المال، وبدء الإرجاء بسبب شدة الاستبداد وقهره، وبدء نقاشات الفقه في صحة إمامة الفاسق شارب الخمر المجرم، وبدء الميل لليأس الفقهي من ثورات تغيير الظالمين المجرمين وصعود رأي ترك الخروج عليهم، وبدعة (الملك المؤله)، أي إقناع الملك بأنه لا حساب عليه أمام الله يوم القيامة، إلخ إلخ! إن أمدح صنائع عمر بن عبد العزيز رحمه الله كلها، التي جعلت بعض المسلمين يجعله في مرتبة الخلافة الراشدة، ليس في فتوحاته، فقد غير السياسة الخارجية وأوقف مبدأ الحروب المستمرة، إنما في إزالته الكثير من مظالم الدولة الأموية، أو تعطيلها حينا على الأقل، قبل أن يموت سريعا! وليس الغريب عندي أن يمتدح تلك الدولة ويذوب عشقا فيها منتسبو فرقة المداخلة، لكن الغريب والعجيب أن يرى الزمان ثائرا ضد الظالمين والطغاة المعاصرين، مولعا بالظالمين والطغاة التاريخيين! لم يكن العباسيون أول من استهدف سلالة بالإيذاء والقتل والتشريد إن لزم، على جريمتهم الشنيعة في حق الأمويين، بل كان الأمويون المبادرين! لم يكن القرامطة أول من اجترأوا على الكعبة ومكة كلها، بل كان الأمويون! لم يكن الفرس والترك والعجم أول من استهدفوا سياسة عرقية عنصرية تجعلهم السادة بعزاءات جاهلية، بل كان الأمويون! الدولة الأموية من جهة الشر العام، كان عصرها يقل في الشر عن عصر ما بعدها، لكنها مع ذلك كانت السباقة في كل باب من أبواب الشر تقريبا! وعليه، ليس من الغريب أبدا أن يختار النظام السعودي الحاكم الحالي الدولة الأموية تحديدا كي يحاول مد صلته بها، باعتباره امتدادا لها، خاصة بعدما تغيرت هوية الدولة من شبه إسلامية إلى قومية محضة! لكن الفارق، حتى مع اشتراكهما في الظلم، يظل كما بين الثرى والثريا! بين دولة ظل الإسلام والفتوح جزءا أصيلا منها، لا يجرؤ كافر على أن ينُصَّ رأسه أمامها، وبين دولة كفى بها خزيا أن يعد أسفل طاغية في الأمويين ثريا بالنسبة لها!

أمام أعيننا نرى قدرة السلطات المعاصرة على تزوير التاريخ وهوس محو أي سجلات أو شخصيات معارضة تعكر صفو هذا التاريخ وملاحقة أي حرف حتى على مواقع التواصل يخالف المصطلحات والسرديات التي تفرضها السلطة! أمام أعيننا رأينا صور رئيس تُمحى وذكره يُنسى وعصره يُسقَط، وإذا فتحت الآن كتب التاريخ لن تجد في سجل الرؤساء المتعاقبين ولو فجوة ممحية ترمز لوجوده، بل لن تجد أي علامة تشير حتى إلى أن كان ثم شيء ومُحي!! أمام أعيننا يزور اليهود التاريخ ويجعلون القاتل مقتولا وضحية، ومن يخالف ذلك يعتقل! حدث ويحدث هذا أمام أعيننا، ثم يأتيك السخيف ويسألك لماذا لم يُدوِّن الفراعنة مدعو الألوهية ذكر الأنبياء والصالحين - الذين ثاروا ضدهم وفضحوا أكذوبة ربوبيتهم - على جدران المعابد! برديات أنشأها وكتبها طبقة من النخبة الحاكمة التي لا ترحم مخالفا، ومعابد شيدها الفرعون وصرف عليها ببذخ لتخليد ذكره = من المفترض إذن أن يكون أمينا على جدرانها ويدون سقطاته وفضائحه وفساده!! سؤال (لماذا لم يذكر الفراعنة الأنبياء) هذا من أسخف ما رأيت في حياتي!!