التأويل الباطل
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
والتأويل الباطل أنواع:
أحدها: ما لم يحتمله اللفظ بوضعه الأول مثل تأويل قوله ﷺ: ««حتى يضع رب العزة فيها رجله»» بأن الرجل جماعة من الناس، فإن هذا الشيء لا يعرف في شيء من لغة العرب البتة.
الثاني: ما لم يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع، وإن احتمله مفردا كتأويل قوله: ﴿لما خلقت بيدي﴾ [ص: ٧٥] بالقدرة.
الثالث: ما لم يحتمله سياقه وتركيبه وإن احتمله في غير ذلك السياق كتأويل قوله: ﴿هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك﴾ [الأنعام: ١٥٨] بأن إتيان الرب إتيان بعض آياته التي هي أمره، وهذا يأباه السياق كل الإباء، فإنه يمتنع حمله على ذلك مع التقسيم والتنويع والترديد، وكتأويل قوله: ««إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر صحوا ليس دونه سحاب، وكما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب»» فتأويل الرؤية في هذا السياق بما يخالف حقيقتها وظاهرها في غاية الامتناع وهو رد وتكذيب يستتر صاحبه بالتأويل.
الرابع: ما لم يؤلف استعماله في ذلك المعنى في لغة المخاطب وإن ألف في الاصطلاح الحادث، وهذا موضع زلت فيه أقدام كثير من الناس حيث تأولوا كثيرا من ألفاظ النصوص بما لم يؤلف استعمال اللفظ له في لغة العرب البتة وإن كان معهودا في اصطلاح المتأخرين وهذا مما ينبغي التنبه له فإنه حصل بسببه من الكذب على الله ورسوله ما حصل، كما تأولت طائفة قوله تعالى: ﴿فلما أفل﴾ [الأنعام: ٧٦] بالحركة وقالوا: استدل بحركته على بطلان ربوبيته، ولا يعرف في لغة العرب التي نزل بها القرآن أن الأفول هو الحركة في موضع واحد البتة، وكذلك تأويل الأحد بأنه الذي لا يتميز منه عن شيء البتة، ثم قالوا: لو كان فوق العرش لم يكن أحدا ; فإن تأويل الأحد بهذا المعنى لا يعرفه أحد من العرب ولا أهل اللغة إنما هو اصطلاح الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ومن رافقهم، وكتأويل قوله: ﴿ثم استوى على العرش﴾ [الأعراف: ٥٤] بأن المعنى أقبل على خلق العرش، فإن هذا لا يعرف في لغة العرب ولا غيرها من الأمم، لا يقال لمن أقبل على الرحل: استوى عليه ولا لمن أقبل على عمل من الأعمال من قراءة أو دراسة أو كتابة أو صناعة قد استوى عليها، وهذا التأويل باطل من وجوه كثيرة سنذكرها بعد إن شاء الله تعالى، لو لم يكن منه إلا تكذيب رسول الله ﷺ لصاحب هذا التأويل لكفاه، فإنه ثبت في الصحيح ««إن الله قدر مقادير الخلائق قبل السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء»» فكان العرش موجودا قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فكيف يقال: إنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أقبل على خلق العرش، والتأويل إذا تضمن تكذيب الرسول ﷺ فحسبه ذلك بطلانا.
الخامس: ما ألف استعماله في غير ذلك المعنى لكن في غير التركيب الذي ورد النص، فيحمله المتأول في هذا التركيب الذي لا يحتمله على مجيئه في تركيب آخر يحتمله كتأويل اليدين في قوله تعالى: ﴿ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي﴾ [ص: ٧٥] بالنعمة، ولا ريب أن العرب تقول: لفلان عندي يد، وقال عروة بن مسعود للصديق ﵁: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
ولكن وقوع اليد في هذا التركيب الذي أضاف سبحانه فيه الفعل إلى نفسه ثم تعدى الفعل إلى اليد بالباء التي هي نظير كتبت بالقلم، وجعل ذلك خاصة خص بها صفيه آدم دون البشر، كما خص المسيح بأنه نفخ فيه من روحه، وخص موسى بأن كلمه بلا واسطة.
فهذا مما يحيل تأويل اليد في النص بالنعمة، وإن كانت في تركيب آخر تصلح لذلك، فلا يلزم من صلاحية اللفظ لمعنى ما في تركيب صلاحيته له في كل تركيب. وكذلك قوله تعالى: ﴿وجوه يومئذ ناضرة - إلى ربها ناظرة﴾ [القيامة: ٢٢ - ٢٣] يستحيل فيها تأويل النظر بانتظار الثواب، فإنه أضاف النظر إلى الوجوه بالنظرة التي لا تحصل إلا مع حضور ما يتنعم به لا مع التنغيص بانتظاره، ويستحيل مع هذا التركيب تأويل النظر بغير الرؤيا وأن كل النظر بمعنى الانتظار في قوله تعالى: ﴿انظرونا نقتبس من نوركم﴾ [الحديد: ١٣]، وقوله: ﴿فناظرة بم يرجع المرسلون﴾ [النمل: ٣٥] .
ومثل هذا قول الجهمي الملبس: إذا قال لك المشبه: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ [طه: ٥] فقل له: العرش له عدة معان، والاستواء له خمس معان، فأي ذلك المراد؟ فإن المشبه يتحير ولا يدري ما يقول.
فيقال لهذا الجاهل: ويلك، ما ذنب الموحد الذي سميته أنت وأصحابك مشبها وقد قال لك نفس ما قال الله تعالى، فوالله لو كان مشبها كما تزعم لكان أولى بالله ورسوله منك لأنه لم يتعد النص.
وأما قولك: العرش له سبعة معان ونحوه، والاستواء له خمسة معان فتلبيس منك على الجهال وكذب ظاهر، فإنه ليس لعرش الرحمن الذي استوى عليه إلا معنى واحد وإن كان للعرش من حيث الجملة عدة معان فاللام للعهد قد صار بها في العرش معينا وهو عرش الرب تعالى، الذي هو سرير ملكه الذي اتفقت عليه الرسل وأقرت به الأمم إلا من نابذ الرسل.