دُلَّني.

بين رحى الزمن المتسارع يطحن المرء تحت وطأة ورهن اللحظة.. تتحول الحياة رويدًا رويدًا لسباق بين الزمن الذي يسبق الخطوات دومًا، والإنسان الذي يلهث وراء خطاه. الآن الآن، لا وجود للانتظار، ولم يعد هناك معنى للتريث، فكلنا في سباق على أمل اللحاق بسرابٍ يبتعد كلما اقتربنا. الآن الآن؛ فالحياة لا تنتظر أحدًا، ونبضاتها المتسارعة قد سلبت من المرء آخر معاني الصبر في نفسه. الآن الآن، دون توقف فمن يتوقف سيُدهس تحت وطأة النسيان.. لا وجود للفرصة الثانية.. ولا وجود للأيدي الحانية الممتدة. الآن الآن وما دون ذلك لا يُستدْرَك.. وما دون ذلك لن يُدرَك، فنحن في دنيا "الآن".

وجل ما أتمنى أن أطمئن.. أن تتوقف الأفكار عن مهاجمة عقلي والصراع بين زواياه.. أن يُحمَل عن عاتقي همُّ تحليل كل خطوة مرات عدة حتى تضيع من بين يدي وأُترَك مُعلَّقة بين ما كان وما سيكون. جل ما أتمنى أن آخذ خطواتي بثبات دون توقف أو انحراف، أن يستقيم الطريق أمامي وأن أشد المسير دون تردد. أن ترافق المعية خطاي، والتوفيق طريقي، أن يقنع عقلي بمحدودية احتمالاته وأن حسابات الله لن تفهمها عقولنا القاصرة. أن يمنحني يقين أم موسى عندما ألقته في اليم وهي تثق في قول: "وَلَا تَخَافِی وَلَا تَحۡزَنِیۤۖ إِنَّا رَاۤدُّوهُ إِلَیۡكِ"، وأن أتفكر في عظمة تدابير الله في كيفية ردّه إليها "وَحَرَّمۡنَا عَلَیۡهِ ٱلۡمَرَاضِعَ"، هكذا بتلك البساطة والدقة وعظمة قدرته التي لا يستوعبها عقل. فأيقن أن حسابات الله قادرة على ما يراه العقل مستحيلًا، وسهلة أمام كل ما يراه العقل صعبًا، وهيّنة أمام كل ما يراه العقل شاقًا. أن تمنحني البصيرة يا الله في رؤية الأشياء على حقيقتها وليس كما يصورها لي عقلي.

وأرى في شكاية البث همًّا فوق همّ البث ذاته، وفي تخير من تشكو إليه خوفًا وترددًا، فالشكاية إلى غير أهلها كمن يهرب من جرف فسقط في الهاوية، فعجّل هلاكه وإن كانت الغاية نجاته.. وما يريد الإنسان من بث حزنه إلا أن يلقى متسعًا يتلقى حزنه، ويمسك يدًا تسحبه لتخرجه من ظلمات قلبه ويبصر نورًا يعطيه أملًا ليتمسك بآخر ما بقي داخله من معنى للصمود والمجاهدة. وما غاية المرء إلا الشعور بأن حزنه مقبول وتعبه مُقدَّر وجهاده في أبسط الأشياء يراه الآخر أعظم جهاد، أن يُفهَم دون شرح وأن يُنصت له بين الجمع كأن لا يوجد سواه أحد، أن يُحتضَن دون طلب، وتُداوى جراحه دون إشفاق. وما غاية المرء أن تتلاشى أحزانه، بل أن يجد من يشاركه جهاده معها، ليس الخوف من حزن يثقل نفسه بل الخوف ألا يجد من يتخفف من حزنه به، الخوف كل الخوف أن نُترَك للوحدة فتكون عونًا علينا لا لنا.

صرتُ أسأل الله أن يُوسِّعَ عَلَيّ في الرِّضا، لو ضاق الرّزق! ولو قَلّت المُعينات، الرَّضا يفتح بابًا من الطّمأنينة بأقلّ التّفاصيل، يُريك الحَصاة جَبَلًا، والقَطرة نَهرًا، والنّعمة سَيلًا لا يقف! هنا الفَرق، أن تلين نَفسك راضيًا بما كَتَب، أن تجد في القَليل كونًا، وفي اليسير حُبًّا، وفي القشور لُبًّا، كأن تُدَرّب النَّفس على الحَمد، لأنّك لو أهمَلتَ الرِّضا يومًا، لن تَهدأ نَفسُكَ، ولو مَلكتَ الأرض قاطبة! «وَلَسَوۡفَ یُعۡطِیكَ رَبُّكَ فَتَرۡضَىٰۤ»

في كلِّ دروبِ الحياة، أول ما يهزمُ الإنسانَ: خوفُه.

متصالحة مع كوني لست الأجمل، ولا الأكثر موهبة ولا حتى لطيفة للدرجة المطلوبة. لكني أحب تلك النسبة القليلة من كل شيء والتي مُنِحت إياها. لا أريد أن أكون الأولى في شيء، يكفيني أن أصحو راضية عن تلك النقاط الصغيرة التي تستقر في شخصيتي، وعن خطواتي البطيئة التي تصنعني. السعي نحو الكمال وهم، ولطالما عشت الواقعية، ولطالما أحببت عيش الواقعية.

"فَعَسَاكَ تلقَى مَن بِطَبعِكَ طَبعهُ "‏وعَسَايَ أَلقَى مَن بِمِثلِ طَبَائِعِي"

"الحياة حرب وابن العاطفة لن يعِيش طويلًا". "ذكّرتني هذه العِبارة بقول الكندي في أبي تمام، "إنّ هذا الرّجُل لَن يعيشَ طويلًا؛ لأنّه ينحتُ من قلبِه". وصدقت فراسة الكندي، كان أبو تمام ينحت من قلبه وتوفي وله من العمر ثلاثًا وأربعين سنة".

كان لي قلبٌ، فيا عَجَبي ليس في جَنبي سوى أثرِه - الرافعي.