وها هو علي الأكبرُ يعودُ ليسألَ أهلَهُ قطرةً من ماءٍ فلا يجدُها.
فكررَ القولَ: يا أبه، العطشُ فتتَ كبدي.
فقال له الحسينُ عليه السلام: اصبرْ حبيبي قليلًا، وارجعْ إلى القتالِ، فإنك لا تُمسي حتى تلقى جدَّكَ رسولَ اللهِ فيسقيكَ بكأسِهِ الأوفى شربةً لا تظمأُ بعدها أبدا، فهجمَ علي الأكبرُ على القومِ وقاتلَهم حتى أجهدَهُ التعبُ، وتكاثروا من حولِهِ، فطعنوه في ظهرِهِ، وضربوه على رأسِهِ، فانحنى علي على رقبةِ الجوادِ فاعتنقها، ونادى بأعلى صوتِهِ: يا أبتي عليك مني السلامُ، هذا جدِّي رسولُ اللهِ قد سقاني بكأسِهِ شربةً لا أظمأُ بعدها أبدًا، فحملَهُ الجوادُ إلى معسكرِ الأعداءِ وهو غائبٌ عن الوعي من شدةِ الضربةِ وألمِ العطشِ، فاستقبلَهُ الأعداءُ بالسيوفِ، وقطَّعوه إرباً إرباً.
فأسرعَ إليه الحسينُ عليه السلام وفرقَهم عنه فوجدَهُ صريعًا مقطعًا بالسيوفِ، فبكى الحسينُ وقالَ: على الدنيا بعدك العفا يا بني، قاتلَ اللهُ قوماً قتلوك، ما أجرأهم على اللهِ وعلى انتهاكِ حرمةِ رسولِ اللهِ.
فحملَهُ الحسينُ وجمع ما تناثرَ مِن أعضائِهِ، وذهبَ به إلى المخيمِ، ووضعَهُ بجانبِ إخوته.
وبينما هم يبكون عليه إذ جاءوا بجثةِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ جعفر، وألقوها بجانبِهِ، وما هي إلا برهةٌ قصيرةٌ حتى جاؤوا بجثةِ أخيه عونٍ الولدِ الثاني لزينبَ بنتِ علي.
وهكذا تساقطَ رجالُ بني هاشمٍ الواحدُ تلوَ الآخر، فبرزَ أبناءُ جعفرٍ فقتلوا، وبرزَ أبناءُ عقيلٍ فقتلوا، وذهبوا إلى ربِّهم شهداءَ أبرارَ أتقياءَ، فرحين بما آتاهم اللهُ من فضلِهِ،{وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ}.
وقد ذكرَ صاحبُ الاعتبارِ وسلوةِ العارفين عن محمدِ بنِ الحنفيةِ أنه قالَ: قُتل مِنَّا مع الحسينِ بنِ عليٍّ سبعةَ عشرَ شابًا كلُّهم قد ارتكضَ في بطنِ فاطمةَ بنتِ أسدٍ عليهم السلام، وهؤلاءِ هم خيرةُ الخيرةِ مِن أهلِ البيتِ.
فكم قتلوا من آل أحمد سيدًا ... إمامًا زكت أعراقه ومناقبُه
فلم لا تمور الأرض حزنًا وكيف لا ... من الفلك الدوار تهوي كواكبُه
عبادَ الله:
بينما أهلُ البيتِ في بكاءٍ وعويلٍ على مَن ذهبَ من القتلى إذ غشي على طفلٍ صغيرٍ من شدةِ العطشِ وألمِ الظمإِ، فكان يرتعشُ من العطشِ كالطيرِ المذبوحِ يعالجُ سكراتِ الموتِ، فطلبوا من الحسينِ أن يأخذَ الطفلَ إلى القومِ لعلهم يرِقّون لحالِهِ ويرحمونَهُ بشربةٍ من الماءِ.
عندها حملَ الحسينُ عليه السلام الطفلَ بين يديه وهو يعلمُ علمَ يقينٍ أن القومَ لن يجيبوه، ولكن إبلاغًا للحجةِ حتى لا يبقى لهم عذرٌ عندَ اللهِ.
وتوجه الحسينُ إلى القومِ والطفلُ بين يديه ونادى: يا قومُ، قد قتلتم أصحابي وأهلَ بيتي، ولم يبق عندي سوى هذا الطفلِ وهو يتلظى عطشًا، ارحموه لصغرِ سِنِّهِ، فليس عليه جنايةٌ، ولا يدري ما الغايةُ، خذوه فاسقوه شربةَ ماءٍ، فإنه قد أشرفَ على الهلاكِ.
وبينما القوم في خلافٍ من أمرِهم وتنازعٍ في الذي يردون عليه والحسينُ منتظرٌ لما يجيبون إذا بسهمٍ غادرٍ قد مَرَقَ من بين القومِ فوقعَ في عنقِ الطفلِ فذبحَهُ من الوريدِ إلى الوريدِ.
فلما أحسَّ الطفلُ بحرارةِ السهمِ اعتنقَ أباه وصاحَ صيحةً عظيمةً سمعها أهلُ المعسكرِ.
فجعلَ الحسينُ يضعُ يدَهُ تحتَ دمِ الطفلِ، وكلما امتلأتْ رمى به نحوَ السماءِ فما رجعَ منه قطرةٌ، وهو يقول: هكذا ألقى جدِّي رسولَ اللهِ على هذه الحالةِ، ثم رجعَ بهِ الحسينُ إلى المخيمِ قد غرقَ في دمائِهِ وقد فارقَ الحياةَ.
عبادَ الله:
رحلَ عن الحسينِ أهلُهُ وشيعتُهُ وأنصارُهُ ومن تبعَهم من الغلمانِ والأطفالِ نحوَ الفردوسِ الأعلى إلى جوارِ رسولِ اللهِ وعليٍّ والحسنِ وفاطمةَ صلواتُ اللهِ عليهم أجمعين، وبقيَ الإمامُ الحسينُ عليه السلام وحيدًا في أرضِ المعركةِ يقاسي العطشَ ونزفَ الجراحِ، والطواغيتُ يحيطون به من كلِّ مكانٍ.
فكان تارةً يكرُّ عليهم حتى يفرقَهم، وتارةً يعودُ إلى مخيمِ النساءِ يحميهن ويخففُ عليهن.
فاشتدَّ عليه العطشُ، وبلغَ به الظمأُ كلَّ مبلغٍ، فطلبَ من القومِ الماءَ، فردوا عليه في سخريةٍ واستهزاءٍ: الماءُ أمامَكَ فتقدمْ لتشربَ إن استطعتْ.
فثارت حميةُ الحسينِ وحملَ على القومِ يضربُهم ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ، واخترقَ الصفوفَ وفرقَ الجنودَ حتى وصلَ إلى الماءِ، فترجلَ عن جوادِهِ، وملأَ كفَّهُ بالماءِ، فلما أدناه من فمِهِ رماه الحصينُ بنُ نميرٍ بسهمِ في فمِهِ فأحمرَ الماءُ في يدِهِ من الدماءِ، فصارَ الحسينُ يتلقى الدمَ بيدِهِ ثم يرمي به إلى السماءِ وهو يحمدُ اللهَ ويثني عليه، ويقولُ: اللهم إني أشكو إليكَ ما يُصنعُ بابنِ بنتِ نبيئِكَ.