شريف محمد جابر

يقول الله عزّ وجلّ في بداية سورة العنكبوت {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}. هكذا مضت سنّة الله عزّ وجل، أن يبتلي عباده المؤمنين ويختبر إيمانهم.. وليس الأمر إيمانًا نتّصف به ويلتصق بنا إلى يوم القيامة دون اختبار.. فكيف ننجو يا ربّ من هذه الفتن المتعاقبة؟ كيف نجتاز الاختبار يا ربّ؟ إنّ السورة نفسها لا تتركنا قبل إعطائنا الإجابة.. ففي نهاية السورة تأتي الإجابة، في آخر آية تحديدا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. الذين صبروا واعتصموا بالله.. الذين طلبوا رضاه في كلّ نازلة ولجأوا إليه بالدعاء.. الذين سألوه الهداية وانكسروا على أعتابه بالرجاء.. الذين جاهدوا في الله، هكذا مطلقة تشمل كلّ شيء، مخلصين لله؛ فإذا خاضوا أمرا طلبوا رضا الله، وإذا تركوا شيئا تركوه لله.. أولئك فقط هم من سيجتاز الاختبار ولن تضرّهم الفتن وسيفوزون بالهداية إلى طريق الله.. أولئك هم الفائزون بمعيّة الله.. وأولئك هم المحسنون.. كانوا مع الله في كل أحوالهم، وأخلصوا له العبادة والعمل.. فكان سبحانه معهم وأنجاهم من الفتن.. وبين أول السورة وآخرها دروس وعبر عن الذين أشركوا بالله وما حلّ بهم من العذاب، وعن هداية الله لأوليائه.. وذكر لوسائل الثبات على الدين في قوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}. ثلاث وظائف لا يتركها العبد المؤمن: - تلاوة الكتاب. - إقامة الصلاة. - المداومة على ذكر الله. وهي خير معين على الفتن وعلى تجاوز الاختبار إلى برّ الأمان: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}.

حين كتبت كتابي "العقائدية القاصرة: من هامش الجدل العقائدي إلى متن الاتفاق الإيماني" (أواخر 2022 وصدر عام 2023) حرصت جدّا على عدم ذكر أسماء بعض الشخصيات، وأن يتركّز كلامي على أهم مقولات هذا التوجّه ونقدها بعمق. بل كان اسم الكتاب متضمّنا لاصطلاح "المداخلة الجدد" ثم عدلت عنه إلى العنوان الحالي. وكل ذلك لسبب أساسي: وهو إدراكي بأنّ هذا التوجه وهذه الأفكار تنتشر في شريحة من الشباب المسلم في عصرنا هذا وفي ظرفية محدّدة ترتّبت على الأحداث والأفكار المائجة فيها، ومن ثم سيكون من الخطأ التركيز على أسماء بعينها، فضلا عن كون تلك الأسماء لا تستحق الذكر أمام من لا يعرفها، فمن يعرفها يدرك جيدا على أي مقولات لها ردّ الكتاب، ومن لا يعرفها وتأثر ببعض هذه الأفكار سيصله الردّ العلمي المؤصَّل من غير الدخول في جدل الأشخاص. أردت للكتاب أن يكون عامًّا يناسب جميع المهتمين بمجال إصلاح الخطاب العقدي. كما أنني لم أتجاهل وجود أزمة تاريخية حقيقية بشأن الخطاب العقائدي، ولم أفضّل – كما سيرى قارئ الكتاب – دفن الرأس في الرمال وممارسة دور المدافع عن التراث فحسب، فالقضية ليست قضية دفاع بقدر ما هي قضية "كيف نتعامل مع هذا التراث؟ ماذا نأخذ وماذا ندع؟ فلا ينبغي لنا أن نكون محاميي دفاع عن كل ما صدر عن ابن تيمية وعثمان الدارمي وعبد الله بن أحمد رحمهم الله وغيرهم من الأئمة عبر تاريخ المسلمين. يتضمّن الكتاب نقدًا وتصحيحا للمفاهيم حول هذه النقاط: - الاستدلال بكلام علماء السلف وكيفية ردّهم على الفرق الضالة من جهمية وغيرهم. - قصورهم في فهم التوحيد ومحدودية مقاصدهم. - قضية الحكم على النّاس من تكفير وتبديع ومقاصد حفظ الأمة. - بيان سعة اتّفاق أهل السنة بخلاف من يركّز على الاختلافات ويضخّم قيمتها. - ارتباط التوحيد بالتمكين لدين الله وإقامة الشريعة وموقف هؤلاء المخزي في هذا الباب. - تهمة "الإنسانوية" الرائجة على لسانهم وضبط مركزية الإنسان والدنيا. وفي نظري أن هذه المحاور هي أهم ما أفرزه هذا التوجّه، ولا ينبغي للنقد الموجّه إليه أن يتغافل عنها فهي أخطر ما فيه. رابط تحميل الكتاب: https://bit.ly/AQaDya

ليست القضية الأهم في العلم أن تكون باحثًا "فرتيكًا" واسع الاطّلاع كثير الكتابة والإصدار.. هذه كلها قشور في جنب القضية الأهم: ما هي رسالتك؟ لأي شيء تسخّر علمك؟ ما الفائدة إذا كنت باحثًا مغوارًا كثير النطّ ثم وُظّفتَ بكل غباء بواسطة الأجهزة الأمنية/الإعلامية في أنظمة الطغيان؟ ما الفائدة من علمك إذا لم يكن في قلبك إرادة لتغيير الواقع الفاسد؟ ما الجدوى من كل ما تكتب وتبحث فيه إذا كان لعابك يسيل عند أول درهم فتكتب وتحاضر "بحسب الطلب" لتملأ جيبك بالمال الوسخ؟ يفرّق اليوم كثيرون بين "العلم" من جهة و"الشخص" وسلوكه ومواقفه وآرائه وأخلاقه من جهة أخرى، وفي نظري هو تفريق غريب عن طبيعة ثقافتنا الإسلامية، فالعلم في المفهوم الإسلامي أوسع أفقًا من مجرّد البيانات النظريّة والتحليل وبثّ المعلومات بين النّاس، ويشتمل على الغاية والرسالة والأخلاق. وحين تستسيغ التلقّي ممّن حالُه لا يرضي الله ولا يحمل أخلاق الإسلام ورسالته فتأكّد أنّ هذه الآفات سوف تكمن فيما يطرحه من علم على النّاس، بل تظهر أحيانًا ظهورًا فجّا، فالارتباط بين المعرفة والمصالح والمشاعر والأخلاق ارتباط وثيق جدّا، فكيف إذا كان اشتغال ذلك الباحث بالإسلام وتراثه وتاريخه وحاضره؟!

من صور المازوخية الفكرية أنّه ما يزال في بلادنا العربية المسلمة من يتحدث عن "نحن" و"هم" بحيث تكون هذه الـ "نحن" والـ "هم" متحيّزة بالحدود التي رسمها المحتلّ الغربي قبل أكثر من قرن! بل تجد هؤلاء يتنابزون ويتعصّبون لحدود هذه الحظائر التي ترسم لهم هويّتهم وانتماءهم، ويعتبرونها بكل بلاهة: الوطن! يأتي المحتلّ فيُقطّع أوصالنا ويؤسس لنا هويّات مخترعة أثبتت فشلها في بناء أمة وحضارة ودولة عبر أكثر من قرن، ونستمرّ نحن في تبنّي ما رسمه المحتلّ بحِرابه التي انتهك بواسطتها حقوقنا وإرادتنا وكرامتنا!

من واجبات المرحلة: بناء الوعي السياسي إلى جانب الوعي الفكري والشرعي والتربوي؛ فقد غدت ثقافتنا في كثير من مصادر تلقيها شبه خالية من دسم السياسة ودراسة الشأن العام. نحتاج إلى جانب الدعاة والتربويين والمنظّرين الفكريين إلى رجال دولة، يعرفون خطورة الدولة وكيف تعمل ويسعون إلى إعادتها للأمة، فهذه "الدولة" هي التي تحول بين الأمّة وبين إقامة دينها واستعادة حقوقها وحفظ دمائها وأموالها وأعراضها.

من أعظم مغالطات العلمانيين المعاصرين – والتي يركّز عليها مركز تكوين الناشئ حديثا – ترديدهم بأنّنا يجب أن نفرّق بين "النصّ المقدّس" وبين اجتهادات الفقهاء، وأنّ اجتهادات الفقهاء كانت مقبولة في عصرها لكن لا ينبغي التمسّك بها وإضفاء صفة القداسة على الاجتهادات. ويبدو الكلام للوهلة الأولى صحيحًا، فلا ينبغي للمسلمين تقديس اجتهادات البشر من الفقهاء، لكن الواقع أنّك حين تسأل هؤلاء العلمانيين: ما هي الأفكار والأحكام التي ترون أنها من رأي الفقهاء وليست من النصّ المقدّس ولا ينبغي التمسّك بها؟ ستجد أنّ من بينها جملة صالحة من الشريعة الثابتة في الكتاب والسنّة، بل إنّ قطعية "وجوب إقامة الشريعة" بحدّ ذاتها ليست من الأمور المقبولة عندهم، ويجادلون فيها، وهي من الأمور الثابتة الساطعة في كتاب الله! فأين الخلل؟ الخلل هو في أنّهم يغالطون حين يجعلون كلّ ما لا يعجبهم "اجتهادًا بشريّا"، فكثير مما جاء في كتب الفقهاء هو من الشريعة الثابتة التي اتفقوا عليها، والتي كان دورهم هو شرحها وإثباتها من الكتاب والسنّة في مصنّفاتهم، وهذه الأحكام التي اتفقوا عليها ووجدوها في الكتاب والسنّة ليست رأيًا بشريّا بل هي من مُحكَم الوحي. فإذا قيل: هذا فهم الفقهاء للوحي، يقال لهم: هل كان الوحي بذاته بغير معنى يمكن فهمه؟ هل يُعقل أن يكون دين الله مبهمًا لا ثابت فيه ولا قطعي يمكن للبشر أن يتفقوا عليه، وقد نزل {بلسانٍ عربيّ مبين}، فبات مفتوحًا للفهم المختلف في كل جزئية فيه.. هل يقول هذا عاقل؟! من يقول ذلك فهو يتّهم كتاب الله بالغموض والخلوّ من المعنى، حتى جاء الفقهاء فأضافوا إليه المعنى، وهذا كلام شديد البطلان، ليس فقط عند المسلمين، بل لكل منصف واقعي يدرس نصوص القرآن ويدرس التفاعل البشري معها عبر العصور، فسيدرك بداهةً أنّ ثمّة "محكَم" و"متَّفَق عليه" من الشريعة تتضمّنه هذه النصوص القرآنية، وأنّ هذا المحكَم يمثّل غالبية شريعة الله، وسيجد أنّ معظم اعتراضات العلمانيين ليست على الاجتهادات الفقهية في المسائل الظنّية التي امتلأت بها كتب الخلاف الفقهي، بل اعتراضاتهم على هذا المحكَم الثابت في الكتاب والسنّة والذي اتفق الفقهاء من لدن الصحابة على معناه! فإذا وجدتَ علمانيّا يقول لك: علينا التفريق بين النصّ المقدّس وبين اجتهاد الفقهاء.. فاعلم أنّ مآله هو ما ذُكر أعلاه، أي معارضة محكمات الشريعة ولا شأن له بالخلاف الفقهي في المسائل الظنّية، فهو يغالط ويكذب حين يزعم تقديس النصّ، إلا أن يكون تقديسًا طقوسيّا لا معنى ولا قيمة له، فتقديس النصّ الحقيقي يستلزم اتّباع ما فيه، وزعم عدم وجود شيء ثابت فيه من الشريعة يمكن اتباعه طعنٌ بالنصّ لا تقديس!

من لطائف سورة الفاتحة #حديث_الآيات https://youtube.com/shorts/Of73c8rYO3k?si=1EnfYcROOjZNT9-l

من لطائف سورة الفاتحة #حديث_الآيات https://youtube.com/shorts/eDPZU2itYwQ?si=_SgROihqV5pjRpoi

بشرى لأهلنا في الداخل الفلسطيني، ستكون كتبي المطبوعة متاحة في معرض الكتاب الأضخم في البلاد، الذي تقيمه مكتبة "برادايس للكتب والقصص" في بلدة كفر كنا (مكتبة الشافعي سابقا) والذي سيبدأ غدا بإذن الله وسيمتد على مدى عشرة أيام، من 23.5.2024 حتى 1.6.2024. الكتب المتوفّرة في المعرض: - منطق القرآن: إصلاح العقل على طريق الحقّ والصدق والعدل - العقائدية القاصرة: من هامش الجدل العقائدي إلى متن الاتفاق الإيماني - الذرّة التائهة: من حافّة الكون إلى أحضان الكلمة - رسائل إلى سلمى