بين "ثورة الحسين" و"صلح الحسن"؟
محمد جميح
يحيي المسلمون الشيعة ذكرى استشهاد الحسين بن علي الإمام الثالث عندهم في العاشر من محرم، إثر مقتله على يد قوات أموية في العراق ضمن سلسلة من الحروب الأهلية التي اندلعت بين المسلمين في القرن الهجري الأول.
وبمناسبة هذه الذكرى ينبغي الإشارة إلى جملة من المعطيات، في مقدمتها كثرة الاستهلاك السياسي لتلك المناسبة، لدرجة أنْ أصبح الحسين الذي قتل مرة واحدة على يد جيش الأمويين، يقتل اليوم ويعتصر آلاف المرات على يد الإيرانيين وجماعات التشيع السياسي التي تدور في فلك طهران، الأمر الذي يتطلب بالفعل إنقاذه وإنقاذ التشيع كله من سيطرة أولئك الذين حولوا الحسين إلى زعيم مليشيا والتشيع إلى أيديولوجيا لخدمة أهداف معروفة.
قد يكون هذا الكلام مغايراً للحقيقة عند الكثير ممن عملت آلة الدعاية الإيرانية لعقود طويلة على غسل أدمغتهم، بإعادة إنتاج الحسين وثورته مفرغة من معانيها ومرتبطة بطقوس تعود إلى معتقدات أسطورية قبل الإسلام، وقبل مرحلة الديانات التوحيدية من الأساس.
إن الحشود الجماهيرية التي تخرج اليوم في ذكرى مقتل الحسين إنما تخرج محبة وتعاطفاً مع صورة الحسين الدينية، لكن تلك الحشود تسمع طوال أيام وليالي مواسم "الحج إلى كربلاء" - بطريقة مباشرة أو غير مباشرة - الكثير من الدعاية الموجهة التي تضع العرب إجمالاً في مواجهة تاريخية مع الحسين، وتضع النظام الإيراني ومليشياته مع تلك الشخصية الرمزية في صف واحد.
وعلى ذلك، فإن مهمة استرداد الحسين من يد ساسة طهران هي مهمة جليلة ينبغي أن يتصدى لها - في المقام الأول - جماهير العرب الشيعة ومفكروهم، ذلك أن بقاء الحسين أسير الاستهلاك النفعي الإيراني قد حمَّله جرم الكثير من مليشيات طهران المسماة باسمه، والتي تهتف: "يا حسين"، وهي تطلق صواريخ إيران في كل اتجاه.
دعونا نسأل سؤالاً جوهرياً: لماذا يتم الاحتفاء بـ"ثورة الحسين"، ولا يتم الاحتفال بـ"صلح الحسن"؟ وهل كان الحسن مخطئاً بسعيه للسلام مع معاوية حقناً للدماء أم أخطأ الحسين في قتاله ومعه أطفاله ونساؤه الذين ربما ظن أنهم سيمنعون خصومه من التجرؤ على قتله في معركة غير متكافئة؟
لقد كان الحسن رجل السلام الذي أدرك أن مصلحة أسرته ومصلحة الدولة الإسلامية تعلو على الخلافات القبلية بين الأمويين والهاشمين، وهي الخلافات التي كانت المحرك الأول لاندلاع واستمرار الخلاف السني-الشيعي، قبل أن يأخذ الخلاف منحى آخر في القرون اللاحقة بعد تدخل العنصر الفارسي، ليكتسب الصراع أبعاداً قومية، عربية-فارسية، لا تزال تداعياتها تنداح في تلك البحيرة الإٍسلامية الراكدة إلا من تلك الموجات الطائفية الموجهة.
إن الدوائر التي عملت على تبني رمزية الحسين على حساب الحسن إنما فعلت ذلك عبر التاريخ عن قصد، لاستمرار صراع الأمويين والهاشميين داخل الصف العربي والمسلم بصور وأساليب مختلفة، ذلك أن تبني رمزية "الحسن المسالم" لا يتفق والأهداف التي من أجلها تم ترميز "الحسين المقاتل"، وإعادة إنتاج صورته على النحو الذي نرى، وبشكل يمد في نسغ الصراعات العربية-العربية المعاصرة في العراق واليمن وسوريا ولبنان، حيث يبدو البعد الطائفي للصراع مرتبطاً بتحقيق مصالح إيرانية ودولية مختلفة، ليس من بينها المصالح العربية، ولا القيم الدينية بالتأكيد.
وقد يقول قائل إن مأساة الحسين كانت كفيلة بتخليد ذكراه على العكس من الحسن، وهذا الطرح على وجاهته تنقضه حقيقة أن حزناً لا يمكن أن يستمر أكثر من 1400 عاماً، إلا إذا كان هذا الحزن حزناً سياسياً مقصوداً لأغراض نفعية، تتم بموجبها عمليات "مَنْتَجة" للحسين في صور تضمن ديمومة الصراع الذي ينهش الجسد العربي المسلم، خدمةً لمصالح إيرانية لم تعد خافية على أحد.
إن دم الحسين لدى الشيعة ليس أغلى من "دم المسيح" لدى المسيحيين الذين يعتقدون قتله وصلبه على يد اليهود، ومع ذلك تجاوزت المسيحية هذه العقدة وتمت "تبرئة اليهود من دم المسيح"، والاعتذار لهم عن تقصير الكنائس في حمايتهم خلال فترة المحرقة، وتجاوز أحقاد التاريخ، لينتهي الأمر بتبادل التمثيل الدبلوماسي بين الفاتيكان وإسرائيل، رغم تمثيل كل منهما لديانتين مختلفتين وتاريخين معاديين.
ولكي تكون الصورة أكثر وضوحاً فإن الخليفة الرابع علي بن أبي طالب الذي مات مقتولاً لم يستمر الحزن عليه كما هو الشأن بالنسبة للحسين، على الرغم من أن علياً مقدّم على الحسين لدى المسلمين سنة وشيعة.
فلماذا الحسين تحديداً؟
دعونا نضرب مثالاً آخر يكشف حقيقة القوى التي عملت على ترميز شخصية دون أخرى، والتي وضعت المعايير التي وفقاً لها تتم "صناعة العدو"، تشجيعاً لثقافة الموت في الحروب الأهلية العربية الإسلامية باسم الحسين، وبمقولات من مثل: " لبيك يا حسين" و"هيهات منا الذلة" و"يا لثارات الحسين" و"الدم ينتصر على السيف".