📍تفسير الآية (٧--٨) من سورة الحجرات
قال تعالى:
﴿وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ فِیكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِۚ لَوۡ یُطِیعُكُمۡ فِی كَثِیرࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡإِیمَـٰنَ وَزَیَّنَهُۥ فِی قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡیَانَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلرَّ ٰشِدُونَ (٧) فَضۡلࣰا مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعۡمَةࣰۚ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ (٨)﴾ [الحجرات ٦-٨]
▪︎هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا... ﴾ [الحجرات ٦، ٧].
وسبب ما سبق أن النبي ﷺ بلَغَه عن قومٍ ما ليس فيهم، فأمر الله تعالى بالتأكُّد من الأخبار إذا جاء بها مَن لا تعرف عدالته، وكأن بعض الصحابة رضي الله عنهم أرادوا من النبي ﷺ أن يعاقب هؤلاء الذين بلغه عنهم ما بلغه، ولكن النبي ﷺ لم يفعل بعد أن نزلت عليه الآية: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾.ولكن العبرة بعموم اللفظ، وهو قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ أي: لشَقَّ عليكم ما تطلبونه من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم...
والحاصل: أنه يوجد من الصحابة رضي الله عنهم مَنْ له هِمَّةٌ عالية، لكنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام لا يطيعهم في كثيرٍ من الأمر؛ لأنَّ ذلك يَشُقُّ عليهم لو أنَّه أطاعَهم.
ثم قال: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾.قد يقولُ قائلٌ: ما هو ارتباط قوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾ بقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾؟والجواب: أنَّكم تطيعونه -أي: الرسول عليه الصلاة والسلام- فيما يخالفكم فيه؛ لأن اللهَ حبب إليكم الإيمان، فتُقَدِّمون طاعةَ النبيِّ ﷺ فيما خالفكم فيه؛ لأنَّ الله حبَّب إليكم الإيمان وزيَّنه في قلوبكم، وهذا استدراكٌ من أبلغ ما يكون من الاستدراك؛ يعني: ولكن إذا خالفكم النبي ﷺ في كثير من الأمر الذي تريدونه فإنَّكم لن تكرهوا ذلك، ولن تخالفوه ولن تحملوا على الرسول ﷺ بسببه ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾ أي: جعله محبوبًا في قلوبكم ﴿وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ يعني: جعلكم تحبونه، وزيَّنه في قلوبكم بحيث لا تتركونه بعد أن تقوموا به؛ وذلك أن فعل الإنسان الشيء للمحبة قد يكون محبةً عارضة، لكن إذا زُيِّنَ له الشيء ثبتَت المحبة ودامت؛ ولهذا قال: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾ وهذا في القلب، ﴿وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ أيضًا في القلب، لكن إذا زين الشيء المحبوب إلى الإنسان فإنه يستمر عليه ويثبت عليه.
﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾ كرَّه إليكم الكُفْرَ الذي هو مقابلُ الإيمانِ، والفسوقَ الذي هو مقابلُ الاستقامة، والعصيانَ اللي هو مقابل الكمال، وهذا تدرُّج من الأعلى إلى ما دونه،
﴿أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ أولئك المشار إليه مَنْ حَبَّب الله إليهم الإيمان وزيَّنه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان يعني: الذين سلكوا طريق الرشد، والرشد في الأصل حسن التصرف، وهو في كل موضع بحسبه، فالرشد في المال أن يُحسِن الإنسانُ التَّصرفَ فيه، ولا يبذله في غير فائدة ...والرشد في الدين: هو الاستقامة على دين الله عز وجل، فهؤلاء الذين حبَّب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان هم الراشدون.
وهنا تجدون هذه الأفعالَ كلها مضافة إلى الله: حبَّب، زيَّنه الله، كره الله عز وجل..ولهذا قال بعدها: ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ﴾ يعني: أن الله أفْضَلَ عليكُم تَفَضُّلًا منه، وليس بكسبِكم ولكنه من الله عز وجل،
وليُعْلَم أنَّ الله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم حيث يجعل الإيمان في الشخص؛ فمن علم الله منه حُسْنَ النية وحسن القصد والإخلاص حبب إليه الإيمان، وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، ومن لم يعلم الله منه ذلك فإن الله تعالى يقول: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾...
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ هذان اسمان من أسماء الله يَقْرِنُ الله بينهما دائمًا العلم والحكمة،
عليم بكل شيء؛ قال الله تعالى: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق١٢]...
وأما الحكيم فهو ذو الحكمة البالغة، والحكمة هي: أن جميع ما يَحْكُم به جل وعلا موافق مطابق للمصالح،ما من شيء يحكم الله به إلا وهو حكمة عظيمة؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ [القمر٥]،...
وله معنى آخر وهو: ذو الحُكْمِ التام؛ فإن الله تعالى له الحكم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى ١٠]،...
[تفسير ابن عثيمين]