قناة | بَيــان.

بصيرة العبد تزداد وتقلّ؛ بحسب ما يتلقّاه القلب من واردات السّمع والبصر، بقدر كفّ الجوارح عن المحرمات؛ تحلّ الهبات.. ثمّة عبودية ذكرها القرآن، هي أساس النّور والبصيرة، عبودية التقوى ولباس التقوى، يقول سبحانه: ﴿إن تتّقوا الله يجعل لّكم فُرقانا﴾، يقول السّعدي رحمه الله في معنى الفرقان أي: العلم والهُدى الذي يفرِّق به صاحبه بين الهدى والضلال والحقِّ والباطل والحلال والحرام وأهل السّعادة من أهل الشقاوة".. بقدر خشية الله في السّر والعلن واتقاء غضبه؛ تحلّ البصيرة، وتأتي هبات العلم والمعرفة والفضل، فالتقوى زاد القلب إلى ربّه، وهذا الزاد الذي ذكره سبحانه؛ وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التّقوى، وهو أنفع علاج ذكره لمن أراد تحقيق البصيرة، تلك البصيرة التي إن رُزق بها؛ لا يضلّ بعدها ولا يشقى.

أسلوب القُرآن حين تحدّث الله عن نفسه العليّة؛ ﴿إنّني أنا الله لا إله إلا أنا﴾.. ثمّ يقول بعدها: ﴿فاعبدني﴾، لفظة واحدة يهبط عندها القلب، فاعبدني.. هكذا يُربّي القرآن شعور اللحظة، ويجعل القلب بكلّيته ساجدًا لمن خلقه، يشهد لنفسه بالوحدانية في كلّ مرة، ﴿لا إله إلا أنا فاعبدون﴾.

الالتذاذ بكلام الله؛ يأتي تباعًا بعد المداومة على قراءته، المداومة شأنها عجيب في إقبال القلب على الآية فهمًا وتدبرا، أن يتّخذ له وردًا يوميا لا يتنازل عنه مهما جرت عليه الظروف والأقدار، حتى إذا اعتادت النّفس على أخذه، واعتاد القلب على هذا الغذاء العلوي؛ استلذّ به عن كلّ غذاء سفلي وإن كان مُباح، فاستمرار تلقّي الآية والاشتغال بالقرآن يومًا بعد يوم؛ يجعل القلب يتّسع أكثر لنيل هداياته، يُصبح هناك نهم روحي معرفي لذوق حلاوة الوحي، ومعرفة المتكلّم بهذا الوحي، يقول القرطبي رحمه الله: "فلمّا كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشّرع الذي استقل بالسنّة والفرض، ونزل به أمين السّماء إلى أمين الأرض؛ رأيت أن أشتغِل به مَدى عُمري"..

قال ابن تيمية: "النفع المتعدي ليس أفضل من النفع القاصر مطلقا، بل ينبغي للإنسان أن يكون له ساعات يناجي فيها ربه ويخلو فيها بنفسه ويحاسبها، ويكون فعله ذلك أفضل من اجتماعه بالناس ونفعهم، ولهذا كان خلوةالإنسان في الليل بربه أفضل من اجتماعه بالناس". ‏[شرح العمدة ٣/ ٦٥٠].

ثمّة وقفة تدبّرية تنساب على القلب بحقائق وجودية، حين اختتمت سورة القيامة بقوله تعالى: ﴿أَليسَ ذلكَ بقادرٍ على أن يُحيِيَ الموتَى﴾، وابتدأت سورة الإنسان: ﴿هلْ أتى على الإنسانِ حينٌ مّنَ الدهْرِ لَم يكُن شيئًا مَّذكُورًا﴾.. هذا التناسب المُهيب ما بين الآيتين؛ ختام سورة القيامة وبداية سورة الإنسان؛ يحويان من الأسرار العظيمة والكنوز الدفينة ما يجعل المؤمن يخضع لكلام ربّه لا محالة، مثلما أنّ الله أحيا العظام البالية من العدم وأوجدها؛ فهو قادر على أن يُحيي القلوب الهامدة بذكره ومعرفته، لم يكن شيئًا مذكورا، كان في رحلة العدم، ولكنّ الله ذكره حين أوجده وخلقه، وأشرف الذكر؛ أن يذكر الله عبده بالإسلام والإيمان! القُرآن كتاب يستثير دوافع الإنسان لبلوغ مرتبة اليقين.. اليقين الذي يجعله يُعاين حقيقة الإحياء الحسّي والإحياء المعنوي، عظامٌ بالية أوجدها من العدم، وقلوب مُظلمة لا تعرف للإيمان طعم، ولكنّه يُحييها بمعرفته، يُحييها بنُوره وقدرته، يُهيئ لها أسباب الحياة بطُرق خفيّة، لا يُدرك كيفيّتها، ولا صنعتها الحقيقية، يُهيئ لعبده أسباب يرتقي بها إليه ليحيا به وحده، حياة لا تحول من بعد فنائه ولا تزول، يبقى أثره ممتدّ كلّما تعاقب الليل والنّهار، تلك حياة العارفين الذين ضجّت السّماء بأصواتهم وتراتيلهم وفتحت لهم أبوابها صعودًا، ما كان لهم أن يهبوا لأنفسهم هذا البقاء لولا أنّ الله أوجدهم من غيابة الظلمة، إلى طلائع الوحي وذوق حلاوة المعرفة، لم يكن شيئًا مذكورا، كان في رحلة العدم، رحلة الغياب الأبدي، ظلامٌ ومنفى.. أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحييَ الموتى؟

الخلوة مع الله؛ علاجٌ كافي لترتيب فوضى القلب وما يعتريه من وحشة بعد رحيل رمضان، شأن الخلوة عظيم، إذا عمّرت بكثرة الذكر، من قراءة القرآن والاستغفار، وطول الدعاء بأن يُعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته، وما جرّب العارفون شيئًا يُعينهم على التزوّد؛ كالخلوات النّافعة، وطول الانقطاع.

حين قال سُبحانه: ﴿هوَ الّذي جَعلَ لكمُ الأرضَ ذلولًا فامشُوا في مناكبِها وكلوا من رزقه﴾. خُتمت الآية بقوله: ﴿وإليه النّشور﴾، من بعد ما ذكر منافع الأرض، وكيف أنّها مُذلّلة مهيئة لمن يعيش فيها، ختم بذكر البعث والدار الآخرة، حتى لا ينسى العبد مستقرّه الحقيقي، وأن لا يغفل عن ملذاته الدائمة، فالأرض وديعة مؤقتة، يقول ابن جزي في تفسير هذه الآية؛ "(ذلولًا فامشوا في مناكبها)، استعار لها الذلّ والمناكب تشبيهًا بالدوابّ".. وفي هذا التشبيه فائدة لطيفة: حين جمع بين السّير الحسّي والسير المعنوي، فالذي يسير على الأرض كالذي يسير على دابّة مذللة له مُنقادة، فبسيره يقصد مكان ينتفع منه، ولمّا ذكر النّشور، فإنّ السير إلى الآخرة أكمل، وأنفع، وفيه تذكير وإيقاد فتيل التبصرة، وطرد الغفلة عن القلب بمُشاهدة غيبيات الآخرة! كلمة: "ذلولا"، فيها مفاد؛ أنّ الأرض خُلق منها الإنسان، وإليها يعود، ومنها يُبعث يوم الحساب، فالأرض متعددة المنافع، مسخّرة بكلّ ما فيها، تُخرج أطيب الأُكل والثمر، ومع كلّ منافعها المتعددة يقول الله: كلوا من رزقه، ثمّ يختم: وإليه النّشور.. من متاع الأرض ولذة السّكن إليها، والاستئناس بها؛ يُبصّره بالميعاد الأخروي، وإليه النّشور، لئلا يطمئنّ في الخلود، وإليه النّشور، مهما طال السّرور، وكمُل بها جمال الدّور، وإليه النّشور!

الحمدلله الذي بلّغنا وإياكم تمام شهره الكريم، تقبّل الله منّا ومنكم صالح الأعمال، وكلّ عام وأنتم بخير🌸..

رمضان يُغادرنا، اللهم دعواتنا وما فاضت به قلوبنا، نستودعك إياها يا من لا تضيع عندك الودائع، اللهم اجعلنا ممن قبلتهم، ورحمتهم، وجبرتهم، ومن الذين عتقتهم من نارك، وبشّرتهم بجنّاتك جنّات النعيم، اللهم إنّك قلت وقولك الحقّ؛ فادعوني أستجب لكم، وقُلت وقولك الحقّ؛ فما ظنّكم بربّ العالمين، ولا نظن بك إلا خيرا، وجودًا، ورحمة، وغفران، اللهم نسألك بجودك وغناك، أن تجود علينا بما عندك من هبات، وأن تغفرلنا ما كان من الزلل والسيّئات، رحل عنّا شهرك الفضيل، فاغفرلنا ما كان من التقصير، ربّنا.. إنّ العين لتدمع، وإنّ القلب ليحزن، وإنا على فراق رمضان لمحزونون، واقفون عند بابك، راجون عفوك ومرضاتك، فلا تحرمنا فضلك بسوء ما عندنا.. اللهم أعده علينا أعوامًا عديدة، وأزمنةٍ مديدة، ونحن ومن نُحب بأحسن حال.