أمّا الأشخاص الذين ترتبط مصالحه بهـم وتلتقي رغباتهم برغباتـه ومزاجـه فهؤلاء هم الأصحاب والأحبـاب وهـم الخـلان والأصـدقاء مهمـا بلغـت درجـة إنحرافهم عن الدين وابتعادهم عن تعاليمه وأحكامه ، ولا مانع عنده من أنْ يساومهم ويساوموه ويـداهنهم ويـداهنوه ، لأنَّ هكذا علاقة لا تختلف كثيراً عن أية علاقة أخرى من علاقات أهل المهن بزبائنهم .
بل تجد مثل هذا المبلغ المهني في كثير من الأحيان يدافع عن قضايا الأقوى في المجتمع أكثر بكثير من دفاعه عن مصالح المحرومين والمستضعفين والفقراء ، بل لا يدافع عن مصالح هؤلاء أصلاً إلّا بمقدار ما يحقق له أنصاراً منهم قد يحتاجهم في لحظة ما .
بل أكثر من ذلك قد يستدعي الأمر أحياناً من مثل هذا التاجر أنْ يُحَرِّف مفاهيم الدين فيوجهها إلى غير وجهتها الصحيحة فيجامل بها هذا الطرف او ذاك .
📌 فرقٌ كبير بين أنْ نفكر بروح المهنة فنحسب لكل كلمة او موقـف حـساب الربح والخسارة وبين أنْ نفكـر بـروح الرسالة فيكون همنا إيصال الكلمة الحقة وإتخاذ الموقف الحق دون حساب لرضى هـذا الطـرف أو ذاك ، مـا دامـت الكلمـة أو الموقـف في خدمة الرسالة وبإسلوب حكيم .
ومن هذا المنطلق ينبغي للداعية الى الله ، الذي يصبو إلى تغيير الواقع أنْ يكون مؤثراً قائداً لا أنْ يكون متأثراً مقوداً ، يؤثر بمنهجه وسلوكه ولا يتأثر بالبيئة والمحيط اللذين يسعى لتغييرهما .
وعلى الداعيـة الى الله أنْ يكون شجاعاً في قول كلمـة الحـق وألّا تأخذه في الله لومـة لائـم .
وعليـه أنْ يُظهر علمـه كلمـا كان ذلك ضرورياً ، فذلك هو مقتضى الميثـاق بينـه - حينمـا اختـار طريق الدعوة إلى الله - وبين الله سبحانه .
يقول جلَّ وعلا في محكم كتابه الكريم :
( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ ) ( 4 ) .
وعن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) أنّه قال :
( أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكوننَّ إمعة ،
قال : وما الإمعة ؟
قال : لا تقولنَّ أن تقول أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس ، إنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : إنما هما نجدان – طريقان – نجد خير ونجد شر ، فما بال نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير ) ( 5 ) .
📌 [ مقترحان ]
وتأسيساً علـى ذلـك أقدم بين يدي مَن يهمه الأمر مقترحين :
◀️ الأول :
أنْ يتنـزه المُبَلِّغ - بقـدر مـا يـمكـن - عـن تقاضـي أي أجـر مـن النـاس مقابـل عملـه التبليغـي ، لا سيّما في العراق ، لعـدة أسباب ، منهـا :
1. أنّه بـذلك يقول للنـاس أنّـه يقـدم لهم الكلمة الطيبة لأجلهم لا مقابل ثمن ، فتدخل كلمته القلوب قبل الآذان .
ولعل ذلك هو الغاية من قوله جلَّ وعلا :
( وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ) ( 6 ) .
إذ أنَّ هذا الشعار النبوي الذي تكرر في أكثر من آيـة ليس من خصوصيات النبي بما هو نبي وإنّما هو منطلق من موقعه كداعيـة يبلـغ رسالة الله سبحانه ، كـدرس عملـي لبقيـة المـؤمنين في العطـاء لخدمة الرسالة بلا مقابل .
2. أنَّه حينما لا يمد يده إلى جمهوره فسوف تسمو العلاقة بينه وبينهم .
ففي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) أنّه قال :
( تحبب إلى الناس بالزهد فيما بين أيديهم تفز بالمحبة منهم ) ( 7 ) .
والمحبة تكون باباً لقبـول الفكرة .
3. أنـَّه حينمـا يـربط تبليغه بالعطاء فقد يؤدي به ذلك إلى السكوت عن قول كلمة الحق التي لا ترضي المعطي أو لا تنسجم مع مزاجه .
ففي الحديث عن الرسول ( صلى الله عليـه وآلـه وسـلم ) أنّـه قـال :
( الطمـع يـُذهب الحكمة من قلوب العلماء ) ( 8 ) .
📌 نعم ينبغي أنْ تتبنى المؤسسات العلمية والمرجعيات الدينية تأمين معيشةٍ للمُبلِّغ المتفرغ كأواسط مجتمعه ، وإلّا فلعل من الخير للداعية أنْ يبحث عن لقمة عيشه في مجال آخر غير مجال الدعوة إلى الله سبحانه .
◀️ المقترح الثاني :
تُؤسَس لهذا الغرض مؤسسة موحدة ، مختصة بالتبليغ ، فيها ممثلون عن مكاتب المرجعيات ، وتستعين بخبرة المؤسسات التبليغية القائمة .
وتحتفظ بقاعدة بيانات :
عن المبلغين : مستوياتهم العلمية ، اسلوبهم ، ونحو ذلك .
فلا يُسمح لمن لا يُفَرِّق بين الهر والبر بإرتقاء المنبر الشريف ، لا سيّما بعد إنتشار نقل المحاضرات على الفضائيات ، وإذا بخطيب يُحسب على المذهب ، وكلامه خليط من غلو وخرافات وأحلام ووو ،
هذا عدا عن " اللحن " في اللغة ، بل حتى فيما ينقله من آيات كريمة .
وعن مناطق التبليغ : من حيث ما تحتاجه كل منطقة من عدد من المبلغين ، ومستوياتهم ، وما الى ذلك .
ويكون إرسال المُبلّغ لمنطقة ما ، أو مسجد أو حسينية أو موكب ما ، عن طريق هذه المؤسسة .