صُنْدُوقٌ أسْوَد.

كل الحُججِ والأعذار، والوعود، والأحاديثَ الطويلةِ تُفنىٰ عند الفقد، تتهاوَى لقيعانِ بئرٍ أسود، وتتخبّطُ بين جداريّ نارِه.. الفقدُ يشبهُ الذئبَ الذي يظلّ سنونًا يرعىٰ فرائسهُ عن بُعدٍ فما إنْ طابَت التهَمهم بلا هوادَة، يشبهُ نارًا قريبةً مهما ابتعَدت، تُناوِشُ بشَرَرِها كلّ حينٍ وتهددُ كَومةَ قشٍّ تحيا في سكونٍ وثبَات. مَن يداهمه الفقد، يداهمه زهايمر لكلّ شيءٍ طيّب تقريبًا، فلو كانت القلوبُ هي القلوب، والشعورُ هو الشعورُ ما وجدَ الفِراقُ موضعَ قدمٍ يحطّ فيه رَحلَه، طبعًا هو شعورٌ أعظمُ من أن يوصفَ لشدةِ وقعه رغم حقارةِ كُنههِ ووضاعةِ شأنه، ولكنه كالشيطَان ينتهز الوقتَ الأمثلَ ليحيلَ بينَ اثنين ظنّا ألّا فِراق! استمسكوا بحبالِ الوعودِ الصغيرةِ بينكم، وقدّسوا آواصرَ الجمالِ فيكُم، وليذكرَنّ أحدكم أخاه بكلّ جميلٍ كلّ آنيةٍ بينهُ وبين ذاتهِ، لا تتركُوا ربوعَ وُدّكم كدِرَةً وماؤهَا راكِد، لا تفرّطوا وتعطوا الدنيّةَ في شعوركم الصادقِ أبدًا مهما كانت قوّةُ الدنيا! نارُ الفقدِ والفراقِ لا تأكلُ في قلبٍ ميّت، بل قلبٍ بالحبّ عجَّ!

اللهم في ساعة الإجابة.. ندعوك بأنا مغلوبونَ فانتَصِر. اللهم إليك نبرأ مِن كل دَمٍ حرام يُراق، وكل نفس مؤمنة بغير حق تُزهَق، وكل كَلْمة تغص حَلق مظلوم، وكل جوعة وكل صرخة وكل حَزْنةٍ وكل روعة وكل لوعة وكل حسرةٍ وكل كسرةٍ.. اللهم لا تُمِت قلوبنا، ولا تطمس على أعيننا، ولا تتوَّلَ عنّا، رحمتُك يا أرحمَ الرّاحمين. اللهم اجعل لهذه الحرب نهايةً تعِزُّ بها المسلمين، ونجِّ عبادك المستعضفين المؤمنين، وأنزل غضبك ومقتك على اليهود المغتصبين.

أخرج الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه مَنْ تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورته، ومَنْ تتبع الله عورته يفضحه ولو في جَوفِ بيته».

عن معاوية بن قرة المزني قال: "إنَّ أشدَّ الناسِ حِسَابًا يومَ القيامة: الصَّحِيحُ الفَارِغ." . [الزهد للإمام أحمد].

آمنتُ بالله. Listen to عبادة الأمل - للدكتور راغب السرجاني by fsahelp on #SoundCloud https://on.soundcloud.com/pXfa2

أنا اتولدت ١٩٨١ بعدها بسنة كان اجتياح لبنان ودمار بيروت، ثم كارثة صابرا وشاتيلا (كان ذاك أضعاف ما ترونه اليوم). من ذاك التاريخ لليوم عايشت أيامًا كثيرة جدًا كالتي تعيشونها، والجيل قبلي أدرك النكسة وما بعدها والجيل قبله أدرك النكبة وما بعدها، وهكذا لكل جيل نصيبه من الشهود والمحنة وكرب النفوس وغمها، أما أهل تلك المحن أنفسهم فلا يحيط بمصابهم كلام. قد أموت ولا يتغير أي شيء، مجرد نكبات تتابع، لكن الذي أعلمه جيدًا، أني لن أسأل عن النكبة نفسها إنما سيسألني ربي ماذا استطعت لها وماذا فعلت من ذاك المستطاع. لم يملك رسول الله شيئًا لأصحابه الذين كانوا يعذبون على مرمى حجر من بيته، كان ما يملكه لهم هو الدعاء والتصبير، وهذا ما فعله. الذي يجب علينا هو أن نفعل ما نطيق، والله يعلم ويرى، وله من راء ذلك الحكم البالغة.

صرت لا أجرؤ على مواكبة الأخبار، أتحاشاها كما أتحاشى الألم النفسي الصريح، وأغلِقُ منافذها ما استطعت، صِرت أتحسس الطرق الآمنة بعد أن نالتني جراحات الأسى مرة تلو الأخرى، وبرُوية أمشي على جانب الطريق حتى ينتهي يومي، بلا انهياراتٍ عصبية وعيون سَحّاء على الهوان والقهر حتى الورم. ولكن رغم ذلك تداهمني الأخبار من حيث لا أحتسب، تنزل عليّ كالصاعقة تشل أوصالي، وتخترق جدراني، وتثخن قلبي.. يكاد مع كل تحديثٍ جديد لواجهة صفحتك على أي منصة تعرف عن أمة الإسلام ما يجعل الولدان شِيبًا، أهوال بالجُملَة، مصائب كنت تسمع عنها في عهدٍ من الزمان مضى والآن تُذاع مباشرةً أمام عينيك بمنتهى الوقاحة.. أتفقدُ إيماني كل لحظة مخافة أن يُطعَن مع كل خبر، خائفة من ضعفي، ويربكني قلة زادي ونقص عِتادي ونَفْسِي المَهدورَة على الدنيا، أرى حجم البلاء ولا أعرف ما إنْ كنت له أهلًا، أو إنْ كنت أعددت له قلبًا، وحسبي أنّك وَليي ووكيلي، ترى جهادي المستمر حتى لا أيأس، وتسمع في صمتي صدى الصراخ المكلوم على عبادك المستضعفين، وبأن حُرقَة قلبي لازالت هي هي.. ولكني يا رب أواريها.

لوهلة أؤمن أننا حتمًا نبدو أشرارًا في عيون الذين عرفونا مِن أحاديث مَنْ خذلنا، أو هكذا يبدو الأمر من على تلك الضفاف، فكما تعلم لكل قصة جهتان، روايتان، تتفق فيهما الأحداث، ويختلف تمامًا التأويل وُفقًا للراوي. ولكن في لحظةٍ أنزع عني المثالية الحالمة لأعترف بأننا بشر، النَّقْصُ شِیمَتُنا، لذا مهما حاولنا أن نمُر خفافًا لا نأذي ولا نؤذي لن يحدث ذلك. سيؤذينا كثيرون، وسنفعل المثل بآخرين، عمدًا أو جهلًا لا يهم، لكننا سنُجْرَح وسنَجْرَح، وبأسفٍ شدید أحيانًا تكون أعمق الجراح تلك التي لم يتعمد أصحابها التسبب بها. يجعلك هذا تتأمّل كيف يرانا البعض كِرامًا أفاضِلَ والبعض الآخر يتخذونا أنذالًا، وكلاهما على حق! فنعم أنا السيىء في موقفٍ ما، في مرحلةٍ ما من حياتي، في نُسخةٍ ما من نفسي. وأنا الخيِّرُ النزيه الذي تاب من ماضيه وأصلح؛ فأحبّه الأقربون وامتدحوه. أنا الذي ما زال يُنظَر إليه بانكسارةِ خاطرٍ ونَفْرَةٍ بعَيْنٍ، وعينٌ أخرىٰ تراني رَحِمَ الحَنانِ والسكون والملاذَ الآمن من جنون العالم! أعجبني قول أحدهم: "هذا الذي دائِمًا ما تُخْبِرُه بأنه طمأنينَتُك، ما زال أحدُهم يُحدّق إليه بخَيبة" وقد صَدق. والحقيقة أنّك مهما اجتهدت لتوحِّد العيون كلها في نظرتها عنك وإليك، فلن تفلح. والقصد كل القصد في أنْ تكون في عين ربّك أولًا ثم في عين نفسك مُقدّرًا مُكَرَّمًا نبيلًا؛ تعرِفُ قَدر نفسِك، وعلى وعيٍ من عيوبك لا تنكرها. تعتذر إنْ أخطأت، وتنسحب بأدبٍ إنْ تأذيت، وتقضي حقوق الناس عليك بما يُرضي الله وبما تحفظ به كرامتك. لا تنتظر أن تُسامحك البشرية جمعاء حتى تعتقد أنّك إنسانٌ صالح!، بل تَعَوَّد أن تُعرِّف نفسَك بما يليق بها من محامد الأخلاق ومنازل الصلاح التي يُحبُّها الله ويُحبّ رؤيتها عليك؛ فلا تُهينهَا بما سَلَفَ منها، ولا تذهبُ نفسُكَ حَسَرَاتٍ على المتشبّثين بنظرةٍ عنك لم تعد تُمثّلك شيئًا.

اللهم لا تفتني بالاعتياد على المشهد، ولا تملأ قلبي باللامبالاة. يا رب لا تجعلني أتذرع بقلة الحيلة والعجز عن إعانتهم بنسيان مُصابهم والتلهي عن معاناتهم. يا رب جنّب قلبي القسوة التي يورثها النسيان وطول الأمد.