سُـرُورٌ،

أُنصتُ للأذانِ وأجدُ أنّه لم يبقَ لذي الحُزن الطَّويل ما يواسِيه في عبرَته في هذه الدُّنيا، لا شيءَ يجهر باسمِه سبحانه، لا شيءَ يصرُخ بالحقّ، لا شيءَ يذكّر بالآخرة، لا شيءَ يهوَّن الدُّنيا إلَّا كلماتُ الأذان الحانِية بقيَّةٌ من أثر هذا الدِّين في الحياة. يأتيني صوت المؤذّن على حالٍ من الصَّمت الوديع الذّليل بصوتٍ حزينٍ يقع في الصَّدر موضع الطّيب على الوجع، ونبرتُه بالصَّبا تترجمُ الشّعور بكلامٍ ونغَم، فيكبِّر فأكبّر، ويهلِّل فأُهلِّل، ويصلّي فأصلِّي، هو يقولُ وأنا أشعُر. يا مرحبًا بذكرِ اللّٰه وحقِّ اسمِ اللّٰه! فذو الحزن الطَّويل، والمُنكسِر الذَّاكر، والمُبتلى الحامد، والأسيرِ العابدِ، والمَظلوم المُحتسب، والكمِد الرَّاضي، عبادُه، يتفقّدهم برحمتِه، ويوصلون إليه رضاهم عنهم بحالهم ومقالهم -وإن أبكَتهم رحمتُه-، وسلواهُم جميعًا الأذانُ الدّاعي إلى لقاء حبيبهم. اللّٰهم لا تحرِمنا بقيَّة أُنسنا بدينك!

في المجَاعة يأتي الطّعام بكمّياتٍ كبيرة، ويُطبخ في قدورٍ كبيرة، وعلى نارٍ كبيرة، لكنّها تظلُّ تُسمى مجاعةً لأنَّ أحدًا لا يشبَع! يتقاسمون المرَق واللّحم والخُبز والزّيت حتّى آخرَ حبّة أرُزّ! تُقسم القطعة إلى ستّ قطع، تُوزّع على عشرة بيوت، في كلّ بيتٍ يذوق كلّ واحدٍ قضمة، وربّما تقسم الأمُّ قضمتَها على خمسةِ أفراخ جياع، وتأكل هي من الحَسرة ما شاءَت حتّى تنفتق شبعًا! عندما صُمنا يوم عرفة ظلّ النَّاس يتحدّثون عن التّعب كلّ أيام العيد! كان يومًا مُتعبًا حقًّا مليئًا بالعطش والجوعِ والصّبر! فوجدتُ أنَّنا النّاس على بُعد أميالٍ من المجاعة لا نعرف منه الجوع إلا لفظته! حضرتُ وليمَة، والزّائد منها لم يأكله أحد! هناكَ فحسب يُدرك المرءُ نعمته. تحت النّار يُعرف برد الأمن، وفي قرصة الجُوع النّازف تُعرف طمأنينةُ الشِّبع، ولا يعلم قدرَ النّاس ما بين هذا وهذا إلَّا اللّٰه الغنيّ! يعلمُ الغنيّ الحابس، والغنيّ المنفق، والموسِر كفافًا، والفقيرَ المحتاج، والفقيرَ الجائع والفقيرَ المذبوح! وحده يعلم. وفي رزق اللّٰه ما يغنيهم فيكفيهم طمرًا وغمرًا، لكنَّها حجتُه البالغة على أهل النّار أنهم شبعوا في الدّنيا ولم يُطعموا من جاع فالآن يجوعون في النَّار، وأهل الجنّة كانوا جياعًا في الدّنيا، والآن يشبعون في الجنّةِ، يأكلون مما يشتهون. ليستحقّ كلٌّ مكانه، أصحاب الجنّة في الجنّة، وأصحاب النَّار في النَّار. ليأتيَ مشهدُ: «وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ! فيقولوا: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ» كالعافية، كتمام النّعمة واكتمال الرّزق للمؤمنين! من يشتكي الجوع؟ أيملك الجائع المتضوّر قوةً للشكوى؟ أيملك من ذاب لحمُه جوعًا أن يخرج ليُخبرك أنّه يذوب لحمه؟ أعليه أن يفعل؟ وإذا فعل أتعِده أنك تسمعه؟ «وصَاحوا وصَاحوا، والصَّدَى يُضحِك الصَّدَى!»

🤍🤍

ولعلَّ أيّام اليقينِ التي تزورُ قلب الصّبور تكونُ له الصّاحب الأنيس في السّفر الطَّويل، ولعلّ هذا اليقين من جُند الرَّحيم بقلب عبده، ولعلَّ ما بينك وبين الأخبار الثَّقيلة حمامةُ البرَكة تزجلُ لك الهنا، ولعلَّها تأتيكَ بالخبر الجميل، تأتيك ولو بعدَ حينٍ من نصَب، لتقلّبَ بصَرَك في السَّماء لوجهةٍ ترضاها، ولعلَّ ما بينك وبين السَّماء حبلٌ يريدُ أن يصير متينًا، ولعلَّ ربَّك يريدُ أن يمُنّ عليك. مرةً ومرّتين، وكثيرًا.

«كأنَّما في قسمات وجهِه بين مسائَين من الشَّعر فلَق من درّةٍ مكنونة صوّرهُ خالقهُ، والناس بعدُ من علَق مذ سُلّمت خزائنُ الحسن لهُ فكّ جميع ما عليها من غلَق» :')🌷

هذه المرَّةَ بالزَّهد. نعم ككُلّ مرَّة دخلتُ ككلّ الحجيج بالطَّمع، لٰكنّي زُففت بالخروج من بوّابة رِضى الزَّاهدين. لا بَريق على رجوةٍ محبوبة، ولا حرارة على نِعمة غائبة، الأشياء تبدو كما ينبغي لها، والزّينة زينةٌ لم تعد كالأمنيات، واللهو صار من المُنكرات. بردُ الشَّوق إلى نِعمته ومزيده كان أكبر، وحنِيني إلى الوطن المسكونِ بالملائكة أصحاب الرّقة والعافية التي هي أشبهُ بي أحلى من مطامع الغريب في الدّنيا المشوبة بوَنسٍ منقوصٍ ووجوهٍ متقلّبة. لبَّيك أيُّ النَّاس شبعَ بعد أن تمنَّى وطمِع؟ لا من كرمك وجودك حاشاك! إنَّما هذا المكان محبوكٌ بالضَّرائب المؤلمة، قائمٌ على الجِزية والظّفر المُبدل بالفقد، لا شيء فيه خالصٌ معناه، ولا شيء منه نقيٌّ مشرَبه، كلّ النعم على عِظَمها ناقصة، وكلُّ النّاس بين غادٍ ورائح، ولا يرجو إذ عرف هذا عنك عبدٌ إلا كمال الهنا فيك، والتّمتُّع بطيّبات اسمك إذ يجري على قلبه ولسانه.

حبيبَ أطيابِ الخلائق، ومألُوه العاقلين أولي الألباب من بين النَّاس! يا عافيةَ السّقيم من الدّنيا! يا أهل المدائحِ الحسناء! يا صاحب الثَّناءات الكاملة! خيرُك في لحمي منقوشٌ وعلى وجهي ظاهرٌ وفي قلبي كمِين، أيُّ واحدة من المحامد تشكرُ عنّي ما وجدتُ منك؟ ربّنا اللّٰه الذي في السَّماء! كلُّ العباد يألمون فيتشافَون بك، وينكسرون فيتجبّرون بك، ويتوجّعون فيبكون فيتذكّرون اسمك فيزول باسم اللّٰه الطيِّب الوجعُ فيضحكون على أمل اللقاء بك. لبّيك إنّ حبَّك لا يزالُ يتعاظمُ بعبدٍ حتّى تنفلق خلايا الحبّ فيك، وتعجز عن حمل حبِّك.

افرحوا بالله؛ قاتل الله المواجع. الحمد لله سُبُّوحًا، سبحان الله وبحمده. أقلُّكم فرحًا بالمعاصي؛ أكثرُكم فرحًا بمباهج الله. يريد الله إسعادكم، ويريد الشيطان إشقاءكم؛ "فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ"؟ بتوحيدك ربَّاه فرحون، وبدينك مُباهون، وبرحمتك مستبشرون، والله أكبر. الله أكبر الله أكبر؛ عددَ شعائرنا حتى تظهر، الله أكبر الله أكبر؛ عددَ أضاحينا حتى تُنحر، الله أكبر الله أكبر؛ عددَ ذنوبنا حتى تُغفر، الله أكبر الله أكبر؛ عددَ كسورنا حتى تُجبر، الله أكبر الله أكبر؛ عددَ همومنا حتى تُحسر، الله أكبر الله أكبر؛ عددَ قيودنا حتى تُكسر، الله أكبر الله أكبر؛ عددَ عيوبنا حتى تُستر، الله أكبر الله أكبر؛ عددَ بلادنا حتى تُحرَّر، الله أكبر الله أكبر؛ عددَ كتائبنا حتى تظفر، الله أكبر الله أكبر؛ عددَ طواغيتهم حتى تُقهر، الله أكبر الله أكبر؛ لا شيء إلهنا منك أكبر، لا إله إلا الله. غائبكم شهيدٌ، وبائسكم سعيدٌ، وأسراكم أحرارٌ، وعصاتكم أبرارٌ، والله أكبر. "أمَّك وأباك، وأختَك وأخاك، وأدناك أدناك"؛ وصية رسولكم. عودوا بعوائد العيد على أولياء الشهداء والأسرى. كلَّ الحياة كلَّكم يا أحبتي في كلِّ خيرٍ. عيدُنا أهلَ الإسلام؛ اللهمَّ دِيمَةً. (حمزة أبو زهرة)