مشاري بن فهد

في كبَد..! في حياتك، لا انفكاك لك عن المشاق والمصاعب، والذي يؤمّل راحةً دائمة في حياته=واهمٌ مخدوع.. ستعجنك الحياة رغم أنفك، وسيمُرّ عليك ما تشعر معه بالضعف والعجز، ولابد.. يقول البقاعي: "أيْ شِدَّةٍ شَدِيدَةٍ، ومَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ مُحِيطَةٍ بِهِ إحاطَةَ الظَّرْفِ بِالمَظْرُوفِ" لكنّ الناسَ في حالهم منها على ضربين: مستسلمٌ منقاد مرخِيّ الأكتاف واهِنَ العزم ثقيل الخُطا، أينما توجهُّ لايأتِ بخير.. ومقاوِمٌ صابرٌ مناضِلٌ مُكابِد، وهذا الضرب أهلهُ متفاوتون في صبرهم وثباتهم أمام كبدِ الدنيا وطبعِها الكَدِر.. فالحياة كبَدٌ، خُلِقَ الإنسانُ فيها، وليس هو منها.. غُمِسَ في لُجّتها، في محيطٍ من الكبَد والمشقة، فلا نجاةَ له منها بها، بل نجاته في طَوقٍ مُبايِنٍ لها، ثائرٍ على حركتِها، مخالفٍ لغايتها، كاشفٍ لك عن حقيقتها، مُتسَامٍ بك عن مادِّتِها؛ إن أخذتَ بعُدّتِه ظفِرتَ بعِدَّتِها.. فالكَبَدُ فيها حتْمٌ لازم، فإذا كان في سبيل معالجتِها وفقهِ مُصابرَتِها كانت المشاقُّ وقودًا للشرفِ والسؤدَد، وزادًا مبذولًا للمجدِ والمحتِد.. اقرؤوا سورة البلد وتأملوا قَسَمها المُعَظّم وجوابَه العظيم.. ثم انظروا كيف ألفَت الله إلى رعاية نِعَمِه التي أولاها للإنسان: أداةً يُغالِب بها مشاقّه.. حتى ترسو بكم السورة على ضفاف النهاية المحصورة، بين مؤمنٍ أصلَح وأطعمَ وافتدى، وكافرٍ جحدَ وكذّب واستغنى.. وكلهم باذلٌ عامل، قد استحق الأولُ بعمله الرحمةَ، والثاني استحقّ العذاب، فالحمدلله مسبب الأسباب!

كلَّ يوم نصحو صباحَه، ننتهض لدُنيانا، نُعالجها=يُثقلنا همٌّ يأكلنا، يقتاتُ على أكتافنا، يقبع على كواهلنا، نسير بين الناس بحِمله الثقيل.. كل فرحةٍ لنا عندنا لها نقصُها، إلا الفرحة بفضل الله وبرحمته.. كدَرُ كل صافٍ تقصيرنا في جنب الله إن نحن قصّرنا، لكنّ كدرها اليوم ومُصابَها الجلل=مُصابنا في أهل غزة، جراحنا التي مازالت تشخبُ دما.. أولئك العزّل الأبرياء الأحرار الذين كانوا ومازالوا رسالةً من رسالات الله إلى الناس، الذين لانت لحالهم بعض قلوب الغربيين، الأبعدين المستبْعَدين عن مشهد الحق في الدنيا والدين، تحررت قلوبهم وعقولهم لنطقوا بالحق الذي أشهد الله عليه فطرتهم الأولى.. كل هذا وذاك، ومايزال في الناس منا من يقول: "فيهم وفيهم..!" عجيب! ما أرى ذاك إلا هوانًا لأجل الدنيا وعمًى عن الحق.. ولايقوم الحق إلا في قلوب المستبصرين بنور الله والإيمان بلقائه، كلما أقبل العبد على الدنيا ظلم نفسه بالذلّ لها، وهان وتضعضع، وتخبّط في دنياه بلا هدى.. ولعل من أسباب ظهور العدل في نفوس أولئك يقظتهم منذ زمن لأمر استعمار عقولهم واستيفازهم للتحرر من استئسار إعلامهم وساستهم.. ثم إذا وافق هذا صدقًا في التوجه ولاقوا رسالة القرآن بقلب مفتوح وصدر مشروح=أذعنوا لها ودخلوا في الدين كأيسر ما يكون.. وهذا فرقُ ما بين المؤمن وغيره؛ حيث يرى بجلاء دلالات الحق؛ يستبصر بآيات الله ويقتدي برسول الله ﷺ.. لاتتغير قيَمُه تبعًا لهواه، ولايُخضِعِ مبادئه لغير الله.. ليس في المسلمين إزاء "غزة" اليوم وقضايا المسلمين بعامة إلا فريقان=لاهٍ خسِر نفسه وقضيّة وجوده وأرغمه الشيطان.. وباقٍ على سبيل النور يحتملُ فيه شمسًا وزمهريرًا، "لاينثني عنه ولايتبدّلُ" والأخير ما بين مقصِّرٍ ظالمٍ لنفسه ومحسن.. وأعظم الإحسان الدعاء، وليس غريبًا أن يكون القيامُ -الذي به تقر العين يوم القيامة- قيامان، قال ﷺ "عينان لاتمسُّهما النار يوم القيامة، عينٌ بكَتْ من خشية الله، وعينٌ باتَتْ تحرِس في سبيل الله" فهلّا رباطٌ وقيامٌ بالدعاء هنا=لقيام الدفع والجهاد والرباط هناك..

تقبل الله طاعتكم يا كرام لا تنسوا هذه الليلة إخوانكم المسلمين في غزة من الدعاء لهم، ولاتنسوا عدوهم من الدعاء عليه، وأن يردنا الله إليه ويعجل لنا برحماته..

اليوم يومُ البكاء .. نعم، يوم المغفرة، يومُ الدعاء والبكاء، اِبكِ .. اِبْكِ -جُعِلتُ فِداك- ولْتَبْكِ ذنوبَك وعيوبَك وتقصيرَك في جنب الله، الذي خلقك فسوّاك فعدَلك، اِبكِ يا مسكين .. إن لم تبكِ في هذا اليوم فمتى؟! متى يدرّ دمعك الذي طالما جفّتْ مآقيك عنه؟! متى؟ متى يعتصر قلبُك على نفسِك حسرةً وندمًا وخوفًا منه؟! قل لي بربّك: متى؟ .. هاااا هم أهل الله وعبادُه المنيبُون يُقبِلونَ عليه مشفقين، يطمعون في كرمِه وفيْضِ جوده وعطائه: وأنت قاعدٌ متقاعسٌ عن اللحاق بركبهم!! قم يا هذا إلى ربك، واسأله أن يليّنَ قلبَك القاسي، ويمنّ عليك بالهدى ويستنقذك من الضلالة وينجّيك من قيد هواك، وينير ظلمة روحك التي طالما أضعفْتَها بهجران الطاعات وألهبتَ عليها سوط الخطايا والسيئات حتى خارت عزيمتها وتبدّدَتْ طاقتُها ..!! قم وابكِ، وارحم نفسَك الآبقة، ورُدَّها إلى حظيرةِ الإيمان والأمان، ولا تتركها للفلاة بلا راعٍ ولا هاد؛ تتخطفها سباع الشهوات والشبهات ..؟! ابكِ على حالك المزرية البائسة، مرِّغ هذا الوجه في التراب، هذه الهامةَ التي لطالما شمخَتْ بأنفها على طاعة الله، واستعلتْ على الخضوع لأمره وثنت عطفها تنكُبًّا لسبيله وصدودًا عن طريقه .. ابْكِ بين يدي سيّدِك ومولاك، فوالله لن تجد أحدًا يسمع نجواك كإياه ويستجيبُ لشكواك ..! ابكِ، فإن لم تبكِ عينُك فليبكِ قلبُك .. ولتعلم أن الله معك ويرعاك، كريمًا عليمًا عظيمًا رحيما، إن لم تكُن تراه: فإنه جل ثناؤه يراك!♥️

يا كرام.. من كان لديه تسجيل لمجلس الأمس فليخبرني فضلًا أو يراسل المعرّف (البوت) @MisharyAlfahad_bot عاجلًا لاهنتم

ما رأيتُ شيئًا يُزيل عنك غبار العِراك وقتام المراغمات: مثل التحليق إلى (السماء) من أصول المعارج إلى ربِّ السماء .. وإلا فكيف يبصُر الطريق من يلتفِت عن وِجهَتِه؟! ﴿قد نرى تَقَلُّبَ وجهِكَ في السماء فلنُوَلِّيَنّك…﴾ المدد من الله يأتيك حين تُقبِلُ بوجهِك تلقاءه، وتتلهَّف لموانحه نَعماءَه، وتسترشد به إليه، وتستدلُّ بآياتِه عليه.. وتنفض يديك من الاعتماد على الخلق استقلالًا، وتزيل عن رؤيتك حُجُب الوهم والزيف، وإلا فكيف يتلَقّى النور من لايكشف الغطاءَ عن وَجهه! .

حياكم الله🌱

نلتقي في حدود نصف الساعة إن شاء الله

"فإن قلتَ : أيُّ العَشْرين أفضل: عشر ذي الحجة، أو العشر الأخير من رمضان؟ قلتُ: ليالي العشر الأخير من رمضان أفضلُ من ليالي عشر ذي الحجة، وأيامُ عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان؛ وبهذا التفصيل يزول الاشتباه. ويدل عليه أن ليالي العشر من رمضان إنما فُضِّلت باعتبار ليلة القدر -وهي من الليالي-، وعشر ذي الحجة إنما فُضِّل باعتبار أيامه، إذ فيه يوم النحر ويوم عرفة ويوم التروية". [بتصرُّف]

ابن القيّم | زاد المعاد