فهمي هويدي
.
حين تجاوزت حرب غزة شهرها السادس، برزت على السطح أحاديث الخلاصات والمآلات، خصوصًا ما تعلق منها بمؤشّرات النصر والهزيمة وخيارات إدارة القطاع. وإذ بات واضحًا أن إسرائيل لم تنتصر في الحرب والمقاومة لم تنهزم، إلا أن موقف الأولين تتعدد فيه صور ودلائل الهزيمة، في حين أن صمود المقاومة له طعم الانتصار.
أثار انتباهي التقييمات الإسرائيلية لمسار الحرب التي صدرت في الأسابيع الأخيرة، إذ رغم استمرار التوجيهات السياسية والرقابية الأمنية التي تخضع لها وسائل الإعلام هناك، فإن هامش حرية التعبير المتاح أبرز توجهًا غير مألوف نحو انتقاد الحكومة والجيش بدرجات مختلفة من الصراحة والحدة، والتي أقتبس منها ما يلي:-
“إسرائيل هزمت بشكل كامل، فأهداف الحرب لن تتحقق، والأسرى لن يعودوا بالعمل العسكري، والأمن لا يزال هدفًا صعب المنال” (هآرتس 13/4).
“عصر انتصارات إسرائيل انتهى، وحماس أرادت أن تُعلمنا بأن هناك عربيًا آخر غير الذي رأيناه في كامب ديفيد أو أوسلو” (أمنون إبراموفيتش، المحلل السياسي البارز في الإعلام العبري 13 / 1).
“الحرب انتهت بهزيمة إستراتيجية لنا، ونحن الآن في ورطة” (حاييم رامون وزير العدل السابق- 11/4).
“إسرائيل خسرت الحرب ضد حماس، صورة النصر الوحيدة المتاحة لنا هي الإطاحة بنتنياهو، وإجراء انتخابات جديدة، (دان حالوتس رئيس أركان جيش الاحتلال السابق- ديسمبر/كانون الأول 2023).
“نصف سنة بالضبط مرت على نشوب الحرب، وعلى إسرائيل احتساب المسار. فكل الأهداف التي قدّمت لنا تبين أن الطريق أصبح بعيدًا عن التحقيق”، (يوآن ليمور المعلق السياسي في يديعوت أحرونوت).
“حماس لم تَهزم إسرائيل فحسب، بل هزمت الغرب كله، (ألون مزراحي كاتب وإعلامي 5/4).
” لا حياة لنا (للإسرائيليين)، إذا لم نندمج في فضاء الشرق الأوسط، لقد علمنا انهيار كافة أنظمة الدفاع العسكرية والبشرية والتكنولوجية في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أنه لا يمكننا الاعتماد فقط على قوتنا وقدراتنا. فالدفاع العسكري وحده لن يؤمّن حياتنا هنا. وإذا كنا لا نريد أن نكون حلقة عابرة في المنطقة مثل المملكة الصليبية، فليس أمامنا إلا أن نجد المعتدلين من العرب ونتحالف معهم، (أمنون ليفي، يديعوت أحرونوت 6/4).
ثمة قراءة أخرى متشائمة عبَّر عنها تحليل نشر على موقع مؤسسة كارنيجي الأميركية في 17 أبريل/نيسان الحالي، لاثنين من الخبراء، هما ناثان براون وفلاديمير بران. ويرى الباحثان أن الهدف النهائي لإسرائيل هو التدمير الكامل لكل مقومات الحياة الفلسطينية في غزة، بحيث لا يكون هناك مجال لأي دولة فلسطينية، حتى حل الدولتين الذي يتحدث عنه كثيرون في الغرب أصبح مثيرًا للاشمئزاز لدى القادة الإسرائيليين.
وهذه الإستراتيجية غير المعلنة تسقط أمام معظم السيناريوهات المطروحة لـ«اليوم التالي»، بما في ذلك نشر قوة سلام دولية في القطاع، أو تشكيل حكومة انتقالية في غزة تشرف عليها الأمم المتحدة، وإذا كان هناك احتمال لوجود سلطة فلسطينية، فإنها ستكون بمثابة وكيل أو مقاول من الباطن، في حين سيظل الأمن كله تحت سيطرة إسرائيل.
أشار التحليل أيضًا إلى أن مناطق كبيرة في غزة جرى تحويلها إلى مناطق عازلة، أما الضفة الغربية، فالمخطط لها أن تتحول إلى بانتوستات في ظل التوسع في مصادرة الأراضي، وهو الدور الذي يقوم به وينفذه على الطبيعة وزير المالية وأحد الرموز الصهيونية اليهودية، بتسلئيل سموتريتش.
ومما نبهَنا إليه الباحثان أن خسائر قطاع غزة من تدميره قدرت بما يعادل 18,50 مليار دولار، حسب تقرير الاتحاد الأوروبي، والبنك الدولي، والأمم المتحدة، وأن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية توقع أن القطاع إذا أراد العودة إلى المستوى الاقتصادي الذي كان عليه في 2022، فإن ذلك يحتاج إلى فترة زمنية تقدر بنحو 70 عامًا قادمة.
رغم قتامة هذا الواقع، فإنه يغفل التصدع الخطير الحاصل داخل إسرائيل التي هي في أضعف حالاتها، رغم الدعم الغربي الذي تستقوي به. فوضعها الاقتصادي، كما العسكري، منهك، ومعنوياتها مجللة بالإحباط، كما أن سمعتها الدولية في الحضيض، والالتفاف حولها من جانب أجيال الرأي العام الغربي تراجع كثيرًا بعد افتضاح أمرها، ومحاسبتها أمام محكمة العدل الدوليَّة، أصبحت مطروحة بعد قبول القضية التي أثارتها جنوب أفريقيا باتهام إسرائيل بممارسة الإبادة الجماعية.
وهي القضية التي فتحت الباب أمام مسارات قانونية تتسع، وباتت تشمل حلفاءها، كما فعلت نيكاراغوا عندما اتهمت ألمانيا – بمساعدة إسرائيل في إبادة الفلسطينيين عبر تسليحها مؤخرًا – لدى العدل الدولية.
أيًا ما كان الأمر، فالشاهد أن الصراع سوف يستمر إلى أجل لا يعلمه إلا الله، وإذ كان من الطبيعي أن يعدّ الطرف الآخر عُدّته لاحتمالات المستقبل خلال ما يعلنه أو يضمره، فإن إعادة ترتيب أوراق الطرف الفلسطيني صاحب الحق تصبح ضرورة ملحة.